نحو تطوير العلاقة مع المرجعية ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم


مفهوم التقليد في المصطلح الفقهي ـ
باختصار وتبسيط ـ هو: رجوع غير العالم (الجاهل) إلى العالم والأخذ عنه في مجال الأحكام الشرعية. ولكن هل يعني هذا أن ليس من حق المقلِّد (العامي) البحث والسؤال وإبداء الرأي بشأن ما توصَّل إليه الفقيه في المسألة الشرعية، أو في فهم النص الديني؟



المعارضون:

البعض يقول بانحصار دور المقلِّد في التلقي المطلق بمعنى التسليم للتفسيرات الدينية التي يتبناها متخصصو الشريعة (الفقهاء) من دون الجرأة على مساءلتها، أي ينحصر دور المقلِّد في التلقي البسيط وليس له دور في فهم النص أو في دراسة حيثيات الفتوى وظروفها الموضوعية والعوامل المؤثرة في صدورها.

ويحتج أصحاب هذا الرأي بقولهم: كيف يكون للفرد العادي حق البحث والمساءلة وهو غير متخصص، ولا يدرك حيثيات ومقدمات وأبعاد الاستنباط؟!



المؤيدون:

وفي المقابل يذهب البعض إلى عدم الممانعة في البحث والمناقشة وإبداء الرأي المخالف ضمن الإطار العلمي، لا للتهريج الإعلامي أو إثارة الفوضى الفتوائية أو استعراض العضلات أو إلغاء دور المرجعية ووظيفة التقليد.

ويضيف هؤلاء بأن الفرد العادي قد يدرك من خلال المعاناة العملية بأن الدواء الموصوف له يزيد في تدهوره الصحي، دون أن يعرف تركيبته الكيميائية، فكذلك قد يدرك غير الفقيه ـ بمقتضى الملاحظة العملية ـ وجود خلل ما في تنظير ديني محدد، وأنه لا يتناسب مع الهدف العام من التشريعات الإسلامية وهو دفع الضرر وجلب المصلحة للبشرية.

كما أن الخطاب القرآني عام لكل المتدينين، وهو يدل على إمكان أن يفهمه القارئ المخاطَب بالقراءة، كلٌّ حسب سعته وطاقته، إذ لا يُعقَل أن يكون الأمر بقراءة القرآن لمجرد البركة وإهداء الثواب للأموات. ولذا فإنه بالإمكان للفرد العادي أن يفهم ـ ولو بدرجة قليلة ـ النص وملابساته، وإن غفل عن التفاصيل.



افتراضات ونماذج واقعية:

ويضرب الموافقون المثال التالي: قد يصل خبراء السياسة إلى أن التنظير الفقهي الفلاني لا ينسجم والمصلحة الوطنية العامة، أو يؤجج الكراهية في المجتمع، أو يعمِّق الانقسام الطائفي، أو يشوِّه صورة الدين، أو يُحدث الفوضى في المجتمع، ويخل بالنظام العام، وذلك من قبيل الفتوى بإباحة بيع وشراء الأصوات في الانتخابات. فهل يسكت هؤلاء عن فتوى الإباحة ويستسلمون لآثارها وتبعاتها دون مناقشة ـ علمية ـ للفقيه؟

وهكذا الأمر في التنظير الفقهي الاقتصادي، فقد يتوصل الخبراء في عالم الاقتصاد إلى أن هذا التنظير يدمِّر اقتصاد البلد، ونحن لا نتكلم عن تنظير فقهي للأفراد فقط، بل التنظير على مستوى الدولة، وبالتالي هل نُفشل التجربة الفريدة في تطبيق الشريعة الإسلامية في الزمن المعاصر لمجرد أن الاستنباط قام على نظرة فردية، أو لأن الفقيه لم يحاول أن يعيد النظر فيه لأنه أمر لم يكن مورد ابتلاء لقرون مديدة؟



أمثلة اقتصادية:

ويمكن أن تكون الفتوى المتعلقة بامتلاك الموارد النفطية والمعادن الثمينة الخام، وكذلك امتلاك الأراضي الموات، والملكية الفكرية، وما شاكلها من القضايا المهمة التي هي بحاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها، لا بمعنى تجاوز الأدلة الشرعية والقفز عليها، بل بمعنى إعادة قراءتها في محاولة لاستنباط أحكام شرعية أكثر قدرة على التعامل مع الواقع ومعطياته ومتغيرات مفهوم الدولة والعلاقات السياسية والمنظومة الاقتصادية وما إلى ذلك.



قضية التدخين:

ويمكن أن أضرب بفتوى حرمة التدخين مثالاً على تأثير النقاش العلمي على فتوى الفقيه، فقد كانت فتوى المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي قائمة على إباحة التدخين إلا في حال ثبوت الضرر بنسبة معتد بها، إلا أن الدراسات التي قُدِّمت إليه في هذا الإطار من قبل المختصين دفعته إلى إصدار فتوى بالتحريم، وفيما يلي جواب سماحته على السؤال التالي: (تردد أخيراً في الأوساط المختلفة أنكم أفتيتم بحرمة السجائر، نود من سماحتكم أن تفصحوا أكثر عن رأيكم بهذا الأمر) فأجاب: (لقد أوردت هذه الفتوى سابقاً مشروطة وهي مذكورة في رسالة توضيح المسائل في حرمة التدخين ـ السجائر و ما شابهها ـ إن شهد أهل الاختصاص و الخبرة بضرره. و بالالتفات إلى الشهادة الأخيرة التي قدمها طائفة من الأطباء من ذوي الاختصاص والملتزمين من أساتذة الجامعات، و بالنظر إلى الإحصاءات المرعبة التي وصلتنا وهي تتحدث عن الوفيات الناشئة عن التدخين إلى جانب ما يؤدي إليه من أمراض خطيرة، فقد أصبحت مخاطر التدخين من الحقائق المسلمة التي لا يمكن إنكارها، بل إن الضرر ليعم حتى أبناء المدخنين ومن يجالسهم. و من هنا أفتينا بالحرمة المطلقة. و أسأل الله سبحانه أن يحفظ كافة مسلمي العالم ولا سيما الشباب الأعزاء الذين يذهبون ضحية هذه المصيبة الأليمة من شر هذا الخطر العظيم، و أن يجدّوا في مراقبة أنفسهم و يحذروا من أصدقائهم. إن شاء الله نشهد اليوم الذي يطهر فيه مجتمعنا الإسلامى من هذا التلوث الخطير).



أخيراً:

إن طرح هذه التساؤلات والملاحظات والإلحاح فيها قد يفتح باباً للفقيه لقراءة النصوص من جديد، ولعله يتوصل إلى قناعة جديدة من خلال الأدلة، فهذه هي غاية فتح باب الاجتهاد، وهو مما نفتخر به في المدرسة الفقهية لأتباع أهل البيت عليهم السلام، ولأن الإبداع عادة لا يتأتى إلا في سياق البحث عنه والقناعة بالحاجة إليه، فالذي يكتشف الجديد في طريقة الحياة هو من يكون لديه طموح التغيير إلى الأفضل، وهو فقط من يكون لديه وعي بنواقص الحاضر، فما لم يشعر الفقيه بالحاجة إلى فهم جديد للنص فقد لا يكون له مدخل إلى ذلك الفهم. وهذا لا يعني إلغاء دور المرجعية ومسألة التقليد أو التعالي على الفقيه، بل يعني التواصل وتلاقح الأفكار وفتح آفاق جديدة أمام الفقيه في عملية الاستنباط. وفي حالة عدم تغير الفتوى يبقى المقلِّد ملزماً بها وفق تفاصيل أحكام التقليد المطروحة في كتب الفقهاء (الرسالة العملية).




جريدة الوطن الكويتية
تاريخ النشر 27/06/2009