خطبة الجمعة 30 شعبان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: صيام الصمت

ــــ قال تعالى: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم:26].
ــــ عرفت بعض الديانات والمجتمعات البشرية صوم الصمت، وما زال يمارَس في بعضها.
ـــ وعرف العرب ما قبل الإسلام هذا النوع من الصيام، قال د. جواد علي في (المفصل) عند حديثه عن صيام أهل الكتاب وصيام رهبان النصارى: (ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن من الجاهليين من اقتدى بهم، وسلك مسلكهم. فكان يصوم، صوم السكوت والتأمل والامتناع عن الكلام).
ــــ إلا أن التشريع الإسلامي نهى عن هذا النوع من الصيام، وأراد بعض المسلمين ممارسته على عهد النبي (ص)، فنهى عنه بوضوح.
ــــ في موطأ مالك أن رسول الله (ص) رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: (ما بالُ هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلمَ ولا يَستَظِلَّ من الشمس، ولا يجلِسَ ويصومَ، فقال رسول الله (ص): مُرُوه فليتكلم، وليستظل، وليجلِس، وليُتِمَّ صيامَه). فأقر الرجل فقط على الصيام بالطريقة المشرعة في الإسلام.
ـــ وفي وسائل الشيعة عن الصادق عن آبائه (ع) ـــ في وصية النبي (ص) لعلي (ع) ـــ قال: (ولا صمتَ يوماً) أي نهاراً (إلى الليل .... وصوم الصمت حرام). وعن علي (ع) قال: (قال رسول الله (ص): ليس في أمَّتي رهبانية ولا سياحة ولا زَم، يعني السكوت).
ــــ وبدلاً عن ذلك اتجه الإسلام إلى الحث على تهذيب الكلام، باختيار الصمت على الثرثرة والكلام الباطل، والنهي عن الكذب والغيبة والنميمة والبهتان والفتنة وأمثال ذلك.
ـــ وقد استوحى الصادق (ع) من آية سورة مريم التوجيه الأخلاقي التالي حيث قال: (إِنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وحدَه، إِنَّ مريم قالت: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا)، أي صمتاً، فاحفظوا ألسنَتَكم، وغضوا أبصارَكم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا) فالمطلوب حفظ اللسان وهو البديل الإسلامي.
ــــ إلا أنه ومع بروز ظاهرة التصوف في القرن الهجري الأول، ومن خلال موروث الرهبان العرب، لا سيما في بعض نواحي العراق، كالبصرة ــــ وقد أخذوا في البداية عنوان (الزهاد) ثم تطور إلى عنوان (المتصوفة) ــــ عاد صيام الصمت للظهور من جديد وبصور مختلفة.
ــــ أحد من كانوا يُعتبرون في زمنهم رؤوس الزهاد، أخذ على نفسه ألا يتفوه أبداً إلا بدعاء أو ذكر، والتزم بذلك، حتى إذا استُشهِد الإمام الحسين (ع) بكربلاء، وأُخبِر بالأمر لم يتمالك نفسه أن قال: (الويل لأمة قتلت ابنَ نبيِّها) ثم سرعان ما سكت وصار يستغفر ندماً على تفوهه بهذه الكلمات!
ــــ وقد أفتى الفقهاء بمنع صوم الصمت، واعتباره من البدع.. إلا أنه ما زالت تأثيرات تلك الرهبنة والتصوف تظهر من وقت إلى آخر، وبصور مختلفة... ولنلاحظ الاستفتاء الموجه إلى المرجع الديني سماحة السيد علي السيستاني: (ماهو رأيكم بمَن يصوم اليوم الأول من شعبان وهو صوم يحيى بن زكريا (ع)، والصوم هو عن الأكل والشرب وعن النطق، أي لا يتكلم طوال اليوم ويجعل عدم النطق من الصوم؟ الجواب: هو صوم الصمت المنهي عنه، فإنه بدعة محرمة).
ــــ وسواء أكنا نتحدث عن مشروعية هذا النوع من الصيام قبل الإسلام، أو عن البديل الإسلامي له، فإن منطلَق الأمر هو إدراك التبعات السلبية لإطلاق الحرية للسان ليتكلم بما شاء.
ــــ وشهر رمضان بخصوصيته الروحية، وخصوصية الصيام فيه، وإلجام النفس عن بعض ما
تشتهي وتريد، ينبغي أن نجعله أيضاً محطةً لتهذيب اللسان، وفي اتجاهين:
ــــ الأول عن المحرمات، وهذا لازم، والآخر عن الثرثرة، والخوض في توافه الأمور، وفيما لا يعنينا، أو ما لا فائدة منه.. ليس خلال فترة النهار فقط، بل حتى في لياليه المباركة.
ــــ ومن المعلوم أن الكلام اليوم ما عاد مقتصِراً على النطق اللساني، بل أصبحت الكتابة وإعادة النشر والمواد الصوتية والمرئية التي تُبث من خلال وسائل التواصل الاجتماعي صورة أخرى من صور الكلام.. وما ذكرناه مسبقاً يشملها.
ـــ قامت إحدى الصحف المحلية مطلع هذا العام بمتابعة القضايا المنظورة أمام المحاكم الكويتية في يوم اختارته عشوائياً، فكانت قضايا المساس بكرامة الناس هي الأكثر تداولاً من خلال ما يتم التعبير عنه في مواقع التواصل الاجتماعي.
ــــ المشكلة محسوسة، حتى أن إحصائية رسمية صدرت عن وزارة العدل الكويتي قبل سنتين تقول أن 33% من قضايا الطلاق في تلك السنة كانت بسبب شبكات التواصل الاجتماعي.
ــــ كنت أستمع إلى مقابلة مع أحد الشباب في إذاعة محلية، فتحدث عن إطلاق حملة على بعض وسائل التواصل الاجتماعي بهاشتاق يحث على منع التغريدات المسيئة في رمضان.
ــــ ونحيّي مثل هذا المشروع الذي يصب في الاتجاه الصحيح، وندعو شبابنا إلى التفاعل معها إيجابياً، وهو جزء من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأتمنى أن نشهد من شبابنا مشاريع توعوية مشابهة، شريطة أن يعملوا هم قبل غيرهم بمضمون هذه المشاريع كي يكونوا صادقين في عملهم، وليجعله الله مباركاً منتجاً.
ـــــ روى المحدِّثون المسلمون أنه: (سمع رسول الله (ص) امرأة تسب جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (ص) بطعام فقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سبَبْتِ جاريتَكِ؟ إن الصوم ليس من الطعام والشراب فقط).. لأن قيمة الصيام في آثاره التهذيبية والروحية، لا في ممارسته الشكلية الجامدة. إن الإسلام وإن اعتبر صيامَ الصمتِ عملاً مرفوضاً، إلا أنه وفي ذات الوقت حثَّ على أن يحفظَ الإنسانُ لسانَه إلا مِن خير، وأن يكون شهرُ رمضانَ بصيامِه وخصوصيتِه الروحية عاملاً مساعِداً أو محطةَ انطلاقٍ للمسلم كي يمارس السيطرة على ما يقول، تفوُّهاً به أو كتابةً أو بإعادةِ النشر عبرَ وسائل التواصل الحديثة، وقد قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).