خطبة الجمعة 23 شعبان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: المتخاذلون

ــــ قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة:246].
ــــ تتحدث هذه الآية عن زمن النبي صموئيل، أي قبل قرابة ثلاثة آلاف سنة، حيث كانت أوضاع بني إسرائيل سيئة بسبب التناحر الداخلي وانتشار الفساد، وضَعْف دولتِهم نتيجة كل هذه العوامل، بالإضافة إلى تآمر أعدائهم الخارجيين عليهم مما أدى إلى فقدانهم مساحات واسعة من دولتهم.
ــــ في كتاب العهد القديم، سفر صموئيل الأول عبارة قريبة مما جاء في الآية الشريفة: (فاجتمع كلُّ شيوخِ إسرائيل، وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة) قرية على بعد 25 كم شمال عكا (وقالوا له: هو ذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملِكاً يقضي لنا كسائر الشعوب).
ـــ يقول النص أن صموئيل دعا الله، فاستجاب دعاءه، وأخبرهم النبي أن هذا الملِك سوف يطلب منهم مساعدةَ أبنائهم الشباب وبناتهم في ساحات الحرب والعمل والتنمية الزراعية لبناء دولة قوية، وقتال الأعداء وأشارت الآية إلى ذلك: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ؟).
ــــ وجاء جوابُهم مليئاً بالاستغراب: (قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؟ أي سؤال هذا يا نبي الله ونحن ندعو ونبكي ونتضرع ونطالب بتعجيل الفرج ونعاهد بأننا سنقاتل مع هذا المخلِّص وسنضحّي بكل شيء.. أ يُمكن أن نكون كاذبين أو واهمين؟
ــــ ولكن كان سؤال ذلك النبي الكريم في محله.. فالمسألة ليست مسألة دعاء، ولا وعود، ولا مجرد أمنيات، ولا أن يطلب الإنسان ويتصور أنه سيجلس مرتاحاً فيتحقق له ما يريد.. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
ــــ هكذا يجب أن نكون، أن لا نستغرق في الظاهر بل نبحث في العمق ونتساءل: أنحن صادقون؟ هل نحن على استعداد أن نقدِّم التضحيات ونتحمل الصعوبات من أجل القضية التي نؤمن بها؟
ـــ الذين يدعون بتعجيل الفرج للإمام المهدي (ع) ليل نهار، هل سألوا أنفسهم إن كانوا يعون ما هو المطلوب منهم لو أنه خرج وطالبهم بتقديم التضحيات؟ أ هُم على استعداد أم سينكصون؟
ــــ في بعض الظروف تتعالى الدعوات للمقاطعة الاقتصادية للشركات الداعمة للصهاينة، أو لبضائع دولا معينة، فتتعالى الأصوات وهي تضجّ مع وجود بدائل متعددة.. هذا موقف يكشف الحقيقة ومدى الاستعداد.. وفي المقابل هناك اليوم في سجون الصهاينة من يقاطع الطعام وحتى الماء من أجل قضيته.
ـــ فما الذي جرى على أرض الواقع مع بني إسرائيل؟ لقد جاء الاختيار الإلهي وأُبلِغوا عن طريق الوحي: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) [البقرة:247].
ـــــ طالوت الذي كان إنساناً فقيراً ومِن عامَّة الشعب.. لذا نزل الخبر عليهم كوقع الصاعقة.. وكانت استجابتهم عكسية ومتمردة ومخالفة لوعودهم: (قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ؟).
ـــ كل واحد منا رسم للإمام المهدي صورة في مخيلته.. من حيث برنامج عملِه ونهضتِه لو خرج.. ومن حيث هيئته، بل والملبس والملامح وحتى نبرة الصوت.. ماذا لو كانت الحقيقة مختلفة تماماً عن الصورة المتخيَّلة؟
ــــ ماذا لو كان أسلوبُ عملِه وكانت مشاريعُه وشعاراتُه لا تتناغم مع أهوائنا، وما نتعصَّبُ له الآن، وما نعادي من خلاله الآخرين، ونتحزَّب به ضدَّهم، بل ونفسُّقهم ونضلِّلُهم من خلاله.. هل سنتقبَّلُها؟ أم سنعيش التمرد أو التردد على الأقل؟
ــــ وجاءهم الجواب من ذلك النبي الكريم: (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ألم تطلبوا ملكاً ذا قدرات متناسبة مع المرحلة ومع متطلباتكم؟ هذا هو.. والله واسع الإحاطة بكل شيء وهو العليم بحقائق الأمور وخفاياها.
ــــ وجاءت الاستجابة على مَضض بعد أن نزلت الحجة من الله عليهم بصحة كلام ذلك النبي، وحانت ساعة تنفيذ الوعود، فماذا جرى؟ قال تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
ــــ إن علينا ـــ ونحن نرفع أيديَنا بالدعاء بتعجيل فرج الإمام المهدي (ع) ـــ أن نتأكد قبل ذلك إن كانت ابتهالاتُنا ومطالبُنا وأمنياتُنا وأدعيتُنا نابعةً من وعيٍ رساليٍّ بالقضية المهدوية.. أن ندرك أن الموقف عند الظهور سيتطلب الاتباع ولو كان ذلك مخالفاً لأهوائنا، كما سيتطلب التضحيات. فهل سنقول كما قال بنو إسرائيل لموسى (ع): (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا).. وهل سنقول: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا) فنحن نريد أن ندخلها دون أن نقدم التضحيات، ونريد لها أن تسقط بصورة إعجازية.. وقد نقول له: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).. هل هيَّأنا أنفسَنا لاحتمال أننا لن نقطفَ ثمار التضحيات مباشرةً لو كنا في عصر الظهور، بل سيقطفُها جيلٌ آخر.. هل اختبرنا أنفسَنا على الأقل في عنوان العدل الذي يمثل القضية المركزية في حركة الإمام المهدي (ع).. أنحن مع العدل في حياتِنا، أم نميلُ ونحيفُ بعيداً حين تَمَسُّنا المسألة أو تَمَسُّ أحبابَنا ومصالحَنا؟ إن الله يريد لنا أن نكون صادقين مع أنفسِنا، وصادقي الوعدِ معه ومع أوليائه، ليُكتَب لنا أننا قد نجحنا في الابتلاء الإلهي.