خطبة الجمعة 16 شعبان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الانتظار السلبي


ـــ من الملاحظات حول مسألة الإيمان بالقضية المهدوية ومسألة الغيبة والانتظار أنها تمثّل ـــ عند البعض ــــ محاولة للهروب إلى الأمام.
ــــ بمعنى أن الإنسان عندما يشعر بالضعف عن مقاومة الظلم والباطل، أو يتكاسل عن ذلك، فإنه يبحث عن قادمٍ في المستقبل ـــ القريب أو البعيد ـــ والذي سيغيّر له ذلك الواقع المظلم.
ــــ ومن خلال هذا الهروب إلى الأمام يستكين هذا النموذج إلى الوضع القائم الذي يعايشه ويرضى به، إيماناً منه بأن الخلاص لن يتحقق ما دام أن هذا المخلِّص لم يظهر بعدُ.
ــــ وقد صَبّت بعض النصوص ـــ التي يُرجَّح إلى أنها إما موضوعة أو أسيء تفسيرها ـــ في صالح هذا الاتجاه، وذلك من قبيل ما رُوي في كتاب الغيبة للنعماني عن الصادق (ع): (كل راية تُرفع قبل قيام القائم (ع) فصاحبها طاغوت).
ــــ وكأنَّ البعض قد وجد في هذه النصوص إسقاطَ تكليفِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الغيبة والانتظار.. وسوَّغ لنفسه الركون إلى الأوضاع السلبية التي يعيشها مجتمعه.
ــــ سواء أكنا نتحدث عن أوضاع سلبية على الصعيد السياسي، كما لو كان المسلمون مستَعمَرين من قبل دولٍ كافرةٍ طاغوتية، أو كنا نتحدث عن أوضاعٍ سلبيةٍ اجتماعيةٍ كشيوع الفساد الأخلاقي، أو عن اوضاعٍ سلبيةٍ فكرية، كما لو انتشرت الأفكار اللادينية والفلسفات المادية.. أو غير ذلك.
ــــ أصحاب هذه النظرة والمؤمنون بها يُجمِّدون أوامر الله ونواهيه الواردة في القرآن الكريم، ولا مانع عندهم أن تبقى هذه النصوص بلا أثر ومعنى، فهي لا تُخاطبُهم، ولا تعنيهم، على الرغم من أنهم يتلون كتاب الله ليل نهار، وآياتُه تحذّر من التراخي وإهمال هذه المسؤولية.
ـــ كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) [الأعراف:164-165].
ـــ وقال سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة:78-79].
ـــ وهكذا يتم تجزئة التعاليم الإلهية القرآنية، فهذا لعصر الحضور وهذا لعصر الغيبة، وكأن الله تعالى أنزل شريعته لقرنين أو ثلاثة من الزمان، ثم قال لنا عطّلوها على مدى قرون متمادية!
ــــ وقد تحوّلت هذه النظرة الخاطئة لمسألة الغيبة والانتظار إلى محفِّز لبروز إشكالية مفادها أن المسألة المهدوية لا تعدو أن تكون أسطورة من نسج خيال الإنسان الضعيف على مر التاريخ، يبرر بها استسلامه للباطل والظلم!
ــــ والواقع أن انتظار المخلِّص، وإطلاق البشارات بظهوره في المستقبل أمرٌ اعتادته الرسالات السماوية، وعرفه المؤمنون بها في أزمنة مختلفة، وهي جزء من الحالة الإيمانية التي تمزج عالم الشهادة بالغيب، وتربط الحاضر بالمستقبل، ويتم بيانها وتوجيهها عن طريق الوحي، لا من خلال المزاج الذاتي.
ـ مثال ذلك البشارة بظهور المسيح (ع) على مدى 400 عام سبقت رسالته.. والبشارة ببعثة النبي الأكرم محمد (ص) على لسان المسيح (ع) وانتظار المؤمنين لتحقق تلك البشارة جيلاً بعد جيل.
ــــ إلى أن شاء الله سبحانه أن يتحقق ذلك بعد أكثر من 500 عام: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) الصف:6.
ــــ لم يكن المراد من هذه البشارة أن تتحول أو أن يغدو هذا الانتظار حالةً من الهروب إلى الأمام، ورضا بالواقع الذي عاشه المؤمنون بالرسالة العيسوية، كأصحاب الكهف وأصحاب الأخدود من المؤمنين برسالة السيد المسيح (ع)، بل كان مفتاح الأمل الذي يدفعهم دائماً للصبر في سبيل الله، والثبات في طريق الابتلاءات العظيمة، والاستعداد للحظة الحقيقة.
ــــ ولربما قام أصحاب القراءة الخاطئة لمفهوم الغيبة والانتظار بقولبة العلاقة بينهم وبين الإمام وجعلها في إطار فردي شخصي، تماماً كما يتعاملون بهذا الأسلوب مع كل ما له علاقة بالدين.
ـــ فالقضية بالنسبة إليهم كيف يمكنهم أن يروا الإمام (ع) من خلال بعض الأعمال وتكرار بعض الأذكار والأوراد، وكأن الإمام قد غاب لكي يقوم كل شخص منا بالبحث عنه، ثم يراه للحظات!
ـــ هل هذه هي وظيفة ومسؤولية ودور الإمام المهدي (ع)؟ هل غايتنا من الإيمان بقضيته والارتباط بإمامته ـــ في المقام الأول والمرتبة الأهم ـــ أن نراه؟ أم أن نتحمل مسؤولياتنا ونعمل ونمهّد لظهوره؟ سواء أكان مقرراً له أن يظهر في هذا الزمان أو بعد قرون.
ـــ فالمهم أن نكون حلقة من حلقات التمهيد للإمام وتهيئة الأرضية المطلوب توافرها لظهوره.
ــــ إن وجودنا في عصر الغيبة لا يَعفينا من تحمُّل مسؤولياتِنا الرساليةِ تماماً كما لا يَعفينا من مسؤولياتنا الفردية كالصلاة والصيام، وهكذا فإنه لا يُراد لنا أن نُعطِّل أوامرَ الله ونواهيه وتشريعاته في هذا الزمان، لنقتصرَ على الأعمالِ ذاتِ البُعد الفردي منها، ونؤجلَ ما كان عاماً إلى زمن الظهور.. بل مِن الضروري أن نفكرَ في إعداد أنفسنا والأجيالِ القادمة لنكون جميعاً بالمستوى الذي يليق بمن هم أنصاره والمساهمون في نشر العدل الذي يمثّل الغايةَ لظهوره.