خطبة الجمعة 16 شعبان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: أعمال كالرماد المتطاير

(مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ) [إبراهيم:18].
ـــ الوصف في الآية الشريفة جميل جداً... تخيل لو كانت لديك لوحة فنية ثمينة جداً، أو مبلغ نقدي ضخم، ثم جاءت عليه النار فاحترق، وتحوّل إلى رماد، هل تبقى من قيمة تلك اللوحة أو ذلك المبلغ النقدي شيء؟ بالطبع لا.. بل حتى ذلك الرماد المتكوّن ستأتي عليه الريح فلا يبقى له أثر.
ــــ وهل يمكن استعادة تلك اللوحة أو تلك الأموال؟ هل يمكن تحويل الرماد المتطاير إلى ما كان عليه قبل الاحتراق؟ كلا.. وحينها ستكون الحسرة عظيمة.. والألم النفسي شديداً.
ــــ هكذا تشبّه الآية مصيرَ أعمال الذين كفروا بربهم.. فعندما يقفون بين يدي الله تعالى في الآخرة، فإنهم سيرون ما قدّموا من أعمال خير في الحياة الدنيا بلا قيمة وتذهب أدراج الرياح.
ــــ وهذا الحديث يثير ملاحظتين: الأولى، حول قيمة عمل الكافر.. أ فيكون التقييم الإلهي هكذا على طول الخط وإن كان المنطلق صالحاً وفي خدمة الإنسانية؟ هل هذا متناغم مع العدل الإلهي؟
ـــ سيكون هذا مفهوماً إذا كان منطلق أعمالِهم التقرب إلى معبوداتهم الأسطورية.. كما سيكون مقبولاً إذا كان منطلقهم الرياء والمصلحة الشخصية.. ولكن ماذا لو كانت منطلقاتُهم إنسانية؟ أ مِن العدل الإلهي أن يكون كفرُهم سبباً لنفي القيمة عنها كما وصفت الآية الشريفة؟
ـــ حين نعود إلى سياق الآية الشريفة سنجد أن الحديث يدور حول فئة خاصة من الكافرين، وهي الفئة المعاندة المحاربة لرسل الله، كما جاء في الآية 13 من السورة، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا).
ـــ ولذا يمكن القول أن الآية ليست بصدد نفي قيمة العمل الصالح ــــ بشكل مطلق ـــ إن صدر عن الكافر، ليشمل ما صدر عنهم بروح إنسانية خالصة، وليتنافى ذلك بالتالي مع العدل الإلهي.
ـــ بل لعلنا نقول أن تلك الأعمال إن صدرت عن روح إنسانية، فهي ناتجة عن إيمان فطري راسب في داخل النفس، إلا أن ضغط مشاكل الحياة أو البيئة التي نشأ فيها الإنسان أو التربية التي تلقّاها، تجعله لا يشعر بهذا الامتداد.. وأما كيف ستكون الإثابة عليها فأمر آخر بيد الله سبحانه.
ــــ الملاحظة الأخرى: أن هذه الآية الشريفة وإن كانت تتحدث عن مصير أعمال تلك الفئة من الكافرين، إلا أنها تجرنا إلى الحديث عن أن قيمة الأعمال الصالحة رهينة منطلقاتِها وغاياتِها، ففي نهج البلاغة: (واعمَلوا في غير رياء ولا سمعة، فإنّه من يعمل لغير اللّه يكِلْه اللّهُ لمن عمِل له).
ـــ فعندما يكون ما وراء العمل غاية ذاتية، فإنه يفقد قيمته عند الله عز وجل في ميزان الحساب الأخروي تماماً كما لو كان تقرباً لمعبودٍ غيرِ الله تعالى.
ـــ أي أن للدوافع الخيّرة والغايات الصالحة دوراً مهماً في تقييم العمل عند الله، لا العمل في حد ذاته، وذلك حفظاً للحياة من الأطماع والأهواء التي تتحكم بالناس.
ــــ فلنجعل أعمالنا الصالحة خالصة لوجه الله بعيداً عن الرياء والمصلحية التي نتكسب من خلالها الوجاهةَ، ومديحَ الناس، وخدماتِهم، والحصولَ على أصوات الناخبين، وأمثال ذلك مما يُحبط الأعمال الصالحة، ويرسل عليها الريحَ في يوم عاصِف، فلا يُبقي منها في الآخرة عينٌ ولا أثر، فتعظُمَ الحسرةُ في النفوس، ولاتَ حين مندَم.