خطبة الجمعة 9 شعبان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الحكومة والمعارضة

ـــ تحدثت في الأسبوع الماضي عن أن وجود المعارضة السياسية ـــ من ناحية التشريع الإسلامي ـــ أمر مطلوب، بل قد يصل إلى حد الوجوب الكفائي باعتباره منبثِقاً من وظيفتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ــــ وذكرت أيضاً أن القرآن الكريم لم يُحصِر هاتين الوطيفتين بالأفراد والجماعات، بل واعتبرهما من مسؤوليات السلطة الحاكمة أيضاً، ولذا فقد أنشيء في الدولة الإسلامية قديماً ديوانُ الحسبة الذي كان يقوم بمراقبة أداء المسؤولين، وإدارات الدولة، والمواطنين على حد سواء، ويحاسبهم ويوجههم.
ـــ ومن المناسب أن أذكّر بأن هذه المسؤولية لم تقتصر على الجانب السياسي، بل كانت تشمل الجوانب الحياتية المختلفة، وهذا ما نبّه عليه الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) حيث بيّن أن من وظائف ديوان الحسبة: المحافظةَ على النظافة في الطرق، والرأفةَ بالحيوان بأن لا يُحَمَّل ما لا يطيق، ورعايةَ الصحَّة بتغطية الروايا، ومنعَ معلِّمِي الصبيان من ضرب الأطفال ضرباً مُبرِّحاً، ومراقبةَ تبرُّج النساء، ومنعَ الغِش في الصناعة والتجارة والمعاملات، وغير ذلك.
ـــ ومن المفترض بأية سلطة سياسية أن لا تنزعج من وجود المعارضة المخلِصة، فردية، أو شعبية، أو نابعة من جهة إدارية مثلما كان حال ديوان الحسبة.. بل وأن تشجّع على وجودها وتستمِع إليها.
ـــ والبرلمان في النظام السياسي الحديث حين يراقب أداء الحكومة ويحاسبها، فإنما يقوم ببعض مهام ديوان الحسبة.
ــــ وفي بعض الأنظمة يتم تشكيل حكومة الظل، وقد ظهر هذا المصطلح في بريطانيا أواخر القرن 19، وعُرِّفت بأنها: (حكومة غير رسمية ودون قوة فعلية، تضم أعضاء من الأحزاب المعارضة للحزب الموجود بالسلطة، وتعمل على توجيه النقد للحكومة الحالية، وتوفير منظور مختلف للسياسات التي تنفذها الحكومة الفعلية، وتكون بديلاً جاهزاً في حال فشل الحكومة الفعلية).
ـــ وسواء أكنا نتحدث عن ديوان الحسبة أو البرلمان أو حكومة الظل وأمثال ذلك، فالغاية واحدة، وهي مراقبة الأداء السياسي والإداري للسلطة الحاكمة انطلاقاً من الروح الوطنية، لا من منطلق المصلحية، أو خدمة الدول الأخرى، أو المعارضة للمعارضة، كما ذكرت في الخطبة الماضية.
ــــ السماح بوجود مثل هذه المعارضة في النظام السياسي لأي بلد علامة رُقِي وتحضّر، لأن السلطة السياسية في نهاية المطاف ليست معصومة عن الخطأ، وغايتها ـــ بحسب الافتراض ـــ خدمة الوطن والمواطنين.
ــــ وكما أنه على المستوى الفردي: (المؤمن مرآة أخيه المؤمن)، السلطة الحاكمة بحاجة إلى مرآة، والمعارضة كالبرلمان هي المرآة بالنسبة إليها.
ــــ ومن هنا، لو سَعَت السلطة الحاكمة إلى أن تجعل البرلمان موالياً لها، فقد أزالت المرآة، ووضعت محلها صورة لها.. والإنسان عندما يقف أمام المُصوِّر يقف أمام الإضاءة المنصوبة بحسابات هندسية، وبأبهى حُلّة، تعلو وجهه الابتسامة المصطنعة، ثم يتدخل المصوِّر لاحقاً بالرتوش.
ــــ والنتيجة.. صورة لا تمثل الحقيقة كما هي، كما أنها لا تقدم الحالات المختلفة لهذا الفرد، على خلاف المرآة التي تكشف حقيقتك في حالاتك المختلفة.. عندما تكون قد استيقظت لتوّك من النوم، أو لم تكن قد سرَّحتَ شعرَك، أو لم تشذّب شاربك ولحيتك لعدة أيام، وهكذا.
ـــ الحكومة الصادقة مع نفسها ومع الشعب لن تستفيد من برلمان في الجيب.. الحكومة الضعيفة أو التي لا تثق بنفسها هي التي تسعى لذلك.
ــــ ولذا من المفترض بأية حكومة مخلِصة ووطنية أن تشجِّع المعارضة المخلِصة والوطنية التي تعينُها على تصحيح أخطائها لتحقيق الإنجازات في المجالات المختلفة بأقل الخسائر والتكاليف.
ــــ المصدر الآخر الذي قد يصيب العمل البرلماني في مقتل هو سوء اختيار الناخبين.
ـــ إذا كان معيار الانتخاب فقط هو أن هذا المرشح قائم بدوره الاجتماعي في أفراحنا وأتراحنا.. فهذه سذاجة انتخابية.
ــــ إذا كان معيار الانتخاب فقط هو أن هذا المرشح يُنجز معاملاتِنا، القانونية منها وغير القانونية... فهذه إساءة كبيرة لنعمةِ وجودِ دستورٍ سمح بقيام مثل هذا العمل البرلماني الشعبي.
ـــ إذا كان معيار الانتخاب فقط هو أن هذا المرشح كثيرُ الصراخ، بارعٌ في الاستعراض الكلامي، يَغوَى فَتْل عضلاته لسبب أو من دون سبب.. فهذه كارثةُ وعيٍ انتخابي.
ــــ إذا كان معيارُ الانتخاب فقط لأن هذا المرشح من قبيلتي، أو من أسرتي، أو من طائفتي، وأمثال ذلك من اعتبارات... فهذا تفريطٌ بحقٍّ ومكتسَبٍ دستوريٍّ ثمين.
ـــ وحينئذ لا يلومَنَّ الناخبون إلا أنفسَهم حين تَخيبُ ظُنونُهم بضعف الأداء البرلماني على المستوى الرقابي لأداء الحكومة، فهذا ما كسَبتْهُ أيديهم. إن وجود المعارضة الوطنية والمخلِصة والصادقة في معارَضتِها، سواء أكانت فردية أو جماعية، أو منبثقة من الإدارات الحكومية نفسِها، علامةُ رقيٍّ وتحضُّرٍ سياسي ومجتمعي، ومكسبٍ دستوري تجب المحافظةُ عليه وتطويرُ أدواتِه بما يخدم المصلحة العامة للوطن والمواطن.