خطبة الجمعة 2 شعبان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: المعارضة السياسية

ــــ المحطة الأبرز في سيرة الإمام الحسين (ع) على الإطلاق هي ثورته المباركة، بل إننا عندما نستدعي اسم الحسين (ع) فإن المتبادر إلى أذهاننا هي هذه الثورة، فالترابط بينهما شديد.
ــــ ولهذه الثورة حضور عاطفي كبير في وجداننا، بحيث أدى هذا إلى أن تتطبّع في أذهاننا أن الثورة هي الأساس في حركة أي إمام من الأئمة (ع).
ـــ وهذا بدوره أدى إلى أن نتساءل دائماً: لماذا لم يثُر الإمام الحسن (ع)؟ أو لماذا لم يثر الإمام جعفر الصادق (ع)؟ أو غيرهما من أئمة أهل البيت (ع).. ونبدأ بالبحث عن الحجج والمعذِّرات.
ـــ لماذا؟ لأنه أصبح الأصلُ عندنا في حركة الأئمة وفي مسؤوليتهم الميدانية، ولاسيما السياسية منها، هو نموذج الثورة الحسينية، وما سوى ذلك فهو خلاف الأصل، وهذه المسألة بحاجة إلى مراجعة فكرية، وقد تناولتُها في خطبة سابقة، ولربما أعيد طرحها في مناسبة قادمة.
ـــ وعلى كل حال، فإن سؤالاً آخر يفرض نفسه أيضاً في هذا الجو: هل المعارضة في حد ذاتها أمر مطلوب وحالة صحية؟ وإذا كان كذلك، فهل بالضرورة أن تكون باللجوء إلى استعمال القوة؟
ــــ تعالوا أولاً فلنبحث عن تعريف لمصطلح (المعارضة) في عالم السياسة... قالوا في معنى المعارضة ويقصدون الجهة المعارِضة.. أي الفاعل نفسه: (المعارضة السياسية هي جميع الحركات والأحزاب التي تعارض القوى السياسية التي تُمسِك بزمام السلطة).
ــــ هذا التعريف نابع من طبيعة الأنظمة الديمقراطية الغربية، فهناك حزب حاكم أو ائتلاف حزبي.. وهناك أحزاب وجماعات معلَنَة تعارضه وتسعى للإطاحة به بكل الطرق ــ ما عدا استخدام السلاح واستعمال العنف ـــ لتحل محله في السلطة. ولذا يجب أن تمتلك بدورها برنامجها البديل.
ــــ أما في مجتمعاتنا فالتعريف قد يختلف لاختلاف طبيعة أنظمة الحكم فيها عن الأنظمة الغربية، ولكن هناك نوعاً من التلاقي في المفهوم العام.
والمعارَضة كفعل ـــ من حيث المبدأ ـــ حالة صحية:
1ـ ما لم تكن غاية في ذاتها.. فالمعارضة لأجل المعارضة حالة غير صحية.. المطلوب أن تكون المعارضة لوجود خلل فعلي وحقيقي، ويكون الظرف لإثارتها مناسباً ويصب في المصلحة العامة.
2ـ وما لم تكن خدمةً لأجندات دولٍ أخرى، مجاورة أو إقليمية أو عالمية.. حيث ستكون المعارضة حينذاك نوعاً من الخيانة الوطنية.
3ـ وما لم تتحول إلى حالة مصلحية بحتة، كالاستنفاع المادي، أو للتسلّط على الشعب لقهره.
ـــ وإذا أردنا أن نعود إلى الجذور الشرعية للمعارضة، فسنجدها متضمَّنة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالتالي هي ليست مجرد حالة مطلوبة بل ومسؤولية تبلغ حد الوجوب الكفائي.
ـــ فبالإضافة إلى الدعوة إلى ما هو خير وتذكير الناس بما ينفعهم، فإن نصيباً ملحوظاً من هاتين المسؤوليتين يتمثل في أن تُعارِض تركَ المعروف، كما وتُعارِض فِعْلَ المنكر بمعناهما الشامل، فالإسلام لا يتحدث فقط عن منكر شرب الخمر أو لعب الميسر أو الزنا أو ترك الصلاة وأمثال ذلك، بل إنه يتحدث أيضاً عن أن الفساد الإداري منكر، والحرمنة منكر، والاختلاس منكر، والرُّشى منكر، وكبت الحريات المسؤولة منكر، ومخالفة القانون منكر، وإعانة الظالم منكر، وتعطيل حقوق المراجعين منكر، والتسيب الوظيفي منكر، والتفاضل على أساس المحسوبية أو الانتماء الحزبي أو
العرقي أو الديني أو المذهبي أو القبائلي أو الأسري من المنكر أيضاً، وغير ذلك كثير.
ـــ بالطبع، لا يقتصر الأمر ـــ في المفهوم الإسلامي ـــ على الجانب السياسي والإداري، بل إنه يشمل الجوانب الدينية والثقافية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك كما هو واضح.
ـــ والملفت بالعودة إلى القرآن الكريم أنه يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــ وبالتالي المعارضة في حالتها الصحية والنافعة ـــــ من مسؤولية ثلاث جهات، وليس جهة واحدة:
1ـ الأفراد: كما في قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور) [لقمان:17].
2ـ المجتمع أو الجماعة من الناس: كما في قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
3ـ السلطة الحاكمة: كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:41]. فمِن أبرز صورِ التمكين في الأرض: الحاكمية والإمساك بالسلطة السياسية.
ــــ وبالتالي فإنَّ مِن مسؤولية السلطة السياسية أن تعمل على نشر وتمكين قيم الخير والحق والعدالة كما وعليها أن تعارض وتَنهى عن ما يخالف ذلك، وتسعى لمنعه ورفعه.
ـــ ولعل هذا القسم الأخير يبدو غريباً للوهلة الأولى، وغير مشمول في المفهوم الحديث للمعارضة السياسية، إلا أن دلالة الآية السابقة تُعطي هذه السعة لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يَشمل ضمنياً مفهوم المعارضة.
ـــ ومن هنا نشأ ديوان الحِسبة في النظام الإداري للدولة الإسلامية فيما مضى، وكانت مسؤولية هذا الديوان القيام بهذا الدور المعارِض والتصحيحي لأي مظهر مِن المظاهر العامة للمُنكرَات.
ـــ من مجموع ما سبق يتضح لنا أن الإسلام ينظر إلى المعارضة السياسية كحالة صحية ومطلوبة، وتقع على عاتق الجميع، السلطة والشعب.. الأفراد والجماعات.. بل هي ترتقي لتكون مسؤولية شرعية، إذ أنها من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن يكون منطلقُها دائماً ضمن الإطار الذي لخّصه الإمام الحسين (ع) حيث قال: (وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسدا ًولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي). فالمعارضة لأجل المعارضة أمر مرفوض، لأن فلسفة وجود المعارضة السياسية في الأساس نابعة من أهمية دورِها الفاعل في مساءلة ومراقبة أداء النظام السياسي وتقويم سلوكِه وترشيدِه. كما وأن المعارَضة لخدمة الأجندات الحزبية أو الخارجية أو لتحقيق المصالح الشخصية على حساب الوطن والمصلحة العامة أمر مرفوض. وما دامت المعارضة ناشئة من مسؤوليتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنها بالتالي محكومة بالأطُر والشروط التي حدَّدَتْها الشريعةُ فيما يخصُّ مراتبَ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدرّجَها، وحدودَها، وانتقالَها من مرتبة إلى أخرى، لاسيما في خصوص استعمال القوة في تغيير المنكر والباطل.