خطبة الجمعة 24 رجب 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الغدر

ـــ قال تعالى في كتابه الكريم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
ــــ ونحن نستقبل ذكرى المبعث النبوي الشريف في السابع والعشرين من شهر رجب الحرام، نتوقف قليلاً عند واحدةٍ من المسؤوليات التي أُلقيت على عاتق رسول الله (ص) ضمن مسؤولياته الرسالية، والمتناغمة مع كونه مرسلاً ليكون رحمةً للعالمين.
ــــ هذه المسؤولية هي مسؤولية تزكية النفس البشرية: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164].
ــــ وواحدة من العناوين التي كانت شاخصة في سلوك الإنسان الجاهلي: الغَدر، حتى أنهم ابتدعوا النسيءَ، أي تبديل الأشهر الحُرُم بأخرى، من أجل الغدر فتكاً بخصومهم أو للغارة والنهب والسلب.
ــــ ولذا نجد شاعراً جاهلياً كعمرو بن كلثوم في معلقته يفتخر وهو يقول:
بُـغَاةٌ ظَـاِلَمينَ وَمَـا ظُلِمْنَا وَلـكِـنَّا سَـنَـبْدَأُ ظَـاِلِميِنَا
ـــ وقال الشاعر المخضرم القطامي التغلبي:
وَكُنَّ إذا أغَرْنَ عَلى جَنَابٍ وَأعْوَزَهُنَّ نَهْبٌ حَيْثُ كانَا
أغرْنَ مِنَ الضَّبابِ على حُلُولٍ وَ ضَبَّةَ إنَّهُ مَنْ حانَ حانَا
وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نَجِد إلا أخانا
ـــ هذا لا يعني أنهم كانوا مع الغدر على طول الخط، فالإنسان بطبعه يُدرك قُبح هذا السلوك، ويذوق مرارَته، ولكنهم كانوا يلجؤون إليه ويبررونه متى ما رأوا أن مصلحتهم تستدعي ذلك.
ـــ ولذا نجد أن علياً (ع) في كتابه إلى مالك الأشتر يقول: (وإنْ عقدتَ بينك وبين عدوِّك عقدةً أو ألبستَه منك ذِمَّة، فحُط عهدَك بالوفاء، وارعَ ذمَّتَك بالأمانة، واجعَل نفسَك جُنّةً دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائضِ الله شيءٌ الناسُ أشدُّ عليه اجتماعاً ـــ مع تفرِّق أهوائهم وتشتُّتِ آرائهم ـــ مِن تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لَزِم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لِمَا استوبلوا من عواقب الغدر) أي أدركوا نتائجه السلبية من خلال التجارب (فلا تَغدِرَنَّ بذمَّتِك، ولا تخيسن
بعهدك، ولا تَخْتِلَنَّ عدوَّك، فإنه لا يجتريء على الله إلا جاهلٌ شقي).
ـــ ومن الواضح من العبارة الأخيرة أن المنظور الإسلامي يعني أن المسلم عندما يعاهد أحداً أو يعطيه الأمان، فإنما باسم الله يعاهد، ولذا قال النبي(ص) فيما أوصى به علياً(ع): (وَإيّاكَ وَالغَدْرَ بِعَهْدِ اللهِ وَالإخْفارَ لِذِمَّتِهِ؛ فَإنَّ اللهَ جَعَلَ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أماناً أمْضاهُ بَيْنَ العِبادِ بِرَحْمَتِهِ) الأمانة نعمةٌ وأمن، وإذا فُقد الأمن تهاوت بُنى العلاقات تدريجياً (وَالصَّبْرُ عَلى ضِيقٍ ترجو انْفِراجَهُ، خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخافُ أوْزارَهُ، وَتَبِعاتِهِ، وَسُوءَ عاقِبَتِهِ).
ـــ ولذا وقف الإسلام بقوة أمام هذا السلوك المنحرف، ودعا إلى الوفاء، لا على المستوى النظري فحسب، بل كان سلوكاً عملياً، وقانوناً تشريعياً، سواء فيما له علاقة بالقضايا السياسية أو الأمنية أو الاجتماعية أو التجارية أو غيرها.
ـــ عن ابن إسحاق: (بلغني أن عبداً أتى رسول الله (ص) وهو محاصِرٌ لبعض حصون خيبر، ومعه غَنم كان فيها أجيراً لرجل من يهود فقال: يا رسول الله، اعرِض عليَّ الإسلام، فعرضه عليه.... فلما أسلم قال: يا رسول الله، إني كنت أجيرًا لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها. فقال الأسود: فأخذ حفنة من الحصى، فرمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك....).
ـــ ولطالما أوصى النبي السرايا التي كانت تخرج للقتال بقوله: (اغْزُوا، ولا ‏تغُلُّوا) إياكم أن تصدر منكم الخيانة (‏ولا ‏تَغْدِرُوا، ‏‏ولا ‏تُمْثِّلُوا، ‏ولا تقْتُلُوا ولِيدًا أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ).
ــــ هذا هو نموذج سلوك رسول الله (ص) في أجواء الحرب، ومع أعدائه، فكيف به في السلم؟
ـــ عبدالله بن سعد كان محكوماً عليه بالإعدام، فأدخله عثمان بن عفان على النبي (ص) مستشفعاً فيه فسكت النبي، وكرر عثمان شفاعته إلى أن قَبِلها النبي، فلما خرجا استنكر النبي على الحضور عدم قيام أحدهم بقتل الرجل، فقال عباد بن بشر: (ألا أومأت إليّ يا رسول الله؟ ... فقال (ص): إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنةُ الأعين)، وفي رواية أخرى: (ليس في الإسلام إيماءٌ ولا فتك، إنّ الإيمان قَيَّد الفتك، والنبي لا يوميء).
ـــ لا فتك في الإسلام ولا غيلة، والفتك يعني أن تأتي شخصاً يعلم بوجودك ويكون مطمئناً من جهتك فتقتله علناً، والغيلة أن تقتله وأنت مستخفٍ منه.
ـــ ومن تربّى في مدرسة رسول الله (ص) ونسَب نفسه إلى الإسلام والإيمان لا يمارس الفتك ولا الغيلة، ولذا عندما حُرِّض مسلم بن عقيل على اغتيال الطاغية عبيدالله بن زياد في بيت هانيء بن عروة استقبح الأمر ولم يستطع تنفيذه.
ــــ وما جرى قبل أيام في نقطة الراشِدِين حيث تجمّع الآلاف من أهالي الفوعة وكفريا في سوريا، ضمن اتفاق التبادل، يمثِّل واحدةً من أبشع جرائم الغدر والخِسَّة، لا سيما بلحاظ استغلال مَن تلوَّثت أيديهم بتلك الجريمة لحظةَ اجتماع الأطفال لتلقّي بعضاً من الأطعمة المحبَّبة إلى قلوبهم، وقد حُرموا منها لسنوات نتيجة الحصار الجائر، فقد امتدَّت إليهم يدُ الجريمةِ والغدرِ والخيانةِ ونقضِ العهودِ والمواثيقِ، وإلى أهالِيهم المجتمعين في الحافلات انتظاراً لنقلِهم إلى مأمنِهم، لتُحوِّل المكانَ إلى أرضٍ محروقةٍ مليئةٍ بأشلاءِ مئاتِ الأبرياءِ الآمنين، في مشهدٍ يصعُبُ وصفُه. وليس ببعيد عن هذه الجريمة الغادرة ما جرى في مصرَ قبل أسابيع في تفجير الكنيستين في يومٍ كان يُستعَدُّ فيه بأمانٍ لاستقبالِ عيدٍ مِن أعيادِهم الدينية السنوية. إن هذه المدرسة التي وَرِثت سلوك الجاهليين، ففاقتهم إجراماً وخُبثاً وانحطاطاً، هي أبعد ما تكون عن رسالة المبعوثِ رحمةً للعالمين، مهما مارست الخديعةَ في راياتِها وشعاراتِها. نسأل الله عزوجل أن يرفع الغُمّةَ عن هذه الأمّة، وأن يَرُدَّ كيدَ الظالمين إلى نحورِهم، وأن يمنّ على الموتى بالرحمة، وعلى الجرحى بالشفاء، وعلى أهليهم بالصبر والسلوان.