خطبة الجمعة 17 رجب 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الشهيد الصدر، العالِم، العامِل، الرسالي


ـــ كان السيد الشهيد محمد باقر الصدر نموذجاً حياً ومصداقاً جلياً لما جاء في نهايات تلك الحكمة العلوية التي قدَّمتُها في الخطبة الأولى.. صورة العالم البصير، والمفكر الرسالي، والداعية الرباني الذي تعلّقت روحه بالمحل الأعلى.. النموذج الذي ختم أمير المؤمنين حكمته بقوله: (آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ).. وفي هذه الأيام مرت ذكرى استشهاده قبل 37 سنة.
ـــ والوقت لا يسمح باستقصاء وتطبيق كل ما ذكره أمير المؤمنين (ع) على هذه الشخصية العظيمة، وسأكتفي بالإشارة إلى جانب واحد وعلى عجالة.
ـــ عاش الشهيد الصدر ظرفاً معقداً جداً، ومن عدة جهات:
1ـ الوضع الأمني الخاص الذي عاشه العراق خلال مخاضات الانقلابات والتسلط البعثي المتوحش.
2ـ الوضع الحوزوي في النجف الأشرف الذي بدأ ينحو منحى الإنغلاق تدريجياً، ويتأثّر بالوضع الأمني والسياسي المحيط به.
3ـ حالة الإحباط التي يعيشها المفكر حين لا يتمكن من تداول أفكاره وبحثها في أجواء حرة.
4ـ التوجه المعارض ـــ والمعادي أحياناً ـــ للشهيد الصدر الأول في الأجواء الحوزوية المحيطة به، والتي وصلت إلى حد اتهامه بالعمالة لأمريكا تارة، وبالوهابية تارة أخرى، وأمثال ذلك.
5ـ عدم امتلاك مؤسسات علمية وبحثية وميدانية تعينه في إنجاز مشاريعه على الصعيد العلمي والتنفيذي. بل كانت أحياناً تنقصه المواد الأولية من قبيل الكتاب الذي يحتاج للرجوع إليه في بحثه. ينقل أحد الذين عايشوه، بأنه في أثناء إعداد كتاب اقتصادنا، سمع الشهيد الصدر بصدور الترجمة العربية لستة أجزاء من موسوعة (قصة الحضارة) للمؤرخ الأمريكي ويل ديورنت، وهو مشروع تاريخي علمي مهم جداً. فتوقف السيد عن الكتابة لأنه رأى أن الدقة العلمية تتطلب منه الاطلاع على محتوى هذه الموسعة قبل الاستمرار في تقديم أفكاره. وكانت هناك نسخة واحدة في النجف عند أحد العلماء، وطلبها منه السيد وبعد إلحاح شديد وافق على الإعارة لمدة أسبوع.. وفعلاً قام السيد بمطالعتها خلال تلك المدة، وعاد من جديد لمشروعه.
ـــ وعلى الرغم من كل ما سبق، نجد أن الشهيد الصدر يقدِّم نتاجاتِه الفكرية والأكاديمية المُبهِرة، والتي ما جاءت كمجرد إضافة للمكتبة الإسلامية، أو كنوع من الترف الفكري، بل تبعاً للحاجة الملحّة وفق التحديات التي كان يعيشها الإسلام.
ـــ ولذا نجد (فلسفتنا) تصدياً للشيوعية والرأسمالية، و(اقتصادنا) لرسم معالم ووضع تفاصيل نظرية حول الاقتصاد الإسلامي، و(البنك اللاربوي في الإسلام) تلبية لطلب القائمين على تأسيس مشروع بيت التمويل الكويتي آنذاك كبديل للبنوك المتعارفة، و(الإسلام يقود الحياة) والذي جاء جواباً على الرسالة التي وجهها جمع من علماء لبنان إليه يستوضحون فيها عن مشروع الدولة الإسلامية في إيران، فكان مقترحاً منه لكتابة دستورها.
ـــ نعم، لم تكن الظروف الصعبة والتعقيدات المحيطة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه لتمنع عبقريتَه الفذة، وروحَه المسؤولة، وعنفوانَه الإيماني، وحماستَه الرسالية، من أن تُترجَم على الأرض، تأليفاً، وتدريساً، وخِطابةً، وتربيةً، وحركةً رساليةً دعوية إلى أن اختاره الله إلى جواره شهيداً كجده أميرِ المؤمنين (ع). والملفت حقاً أن وقوعَ الإنسانِ تحتَ وطأةِ الضغوطِ الهائلةِ تُفقده ـ في العادة ـ اتزانَه الفكري، وتنعكسُ حالتُه العصبيةُ المتوترةُ أو القلقةُ أو الغاضبةُ على رؤاه وخطاباتِه وكتاباتِه، كما قال تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) [المعارج:19-20] . إلا أننا حين نعود لما أنتجتْه هذه الشخصيةُ العظيمة، فسنجدُ أنها تمثّلُ قمةَ الاتزانِ والعمقِ والحصافةِ والإبداع، وهو ما يزيدُ من عظمتِها، ويرفعُ من شأنها.. وصَدَق جدُّه أميرُ المؤمنين (ع) إذ قال: (أُولَئِكَ ـــ وَاللَّهِ ـــ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْراً). فسلاماً باقرَ الصدرِ سلاماً.