خطبة الجمعة 17 رجب 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: أصناف العلماء


ـــ في نهج البلاغة في قسم الحكم 147: (قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع) فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ) المقبرة أو الصحراء (فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ. النَّاسُ ثَلَاثَةٌ، فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ) فكلما تدرس وتقدم معرفتَك للناس كلما فتح ذلك لك آفاقاً من المعرفة من خلال التفكير والأسئلة وتبادل المعارف وغير ذلك.
ــــ (وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ) بينما العلم يبقى متداولاً ولربما ينمو عبر الزمان. وكثيراً ما ركّز الإمام على كنز المال والتهافت عليه، لأن هذه المسألة كانت مشكلة كبيرة في زمانه.
ــــ تغيرت أولويات الناس.. أصبح المال هو الأساس على مستوى اهتماماتهم، وهو الحاكم على تصرفاتهم، وهو الأساس في التقييم.
ــــ إلى درجة أن أقرب الناس إليه سقطوا في اختبارات المال المختلفة.. اختلاسات.. بيع ذمة.. بيع ولاءات.. بيع آخرتهم... وأما طلاب العلم فما عادوا من النوعية التي يأنس بها العالم.. هذا إن لم يكن طلب العلم من الأساس ــــ عند هؤلاء ـــ وسيلة للوصول إلى المال والمنصب والجاه! لا لله ولا لخدمة الإنسان.. وهذا ما سيبينه الإمام لاحقاً.
ـــ (يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ) وكيف ذلك؟ (بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ) هذا أوّلاً.. فالعلم يُقرّب الإنسان من الله ويدفعه إلى طاعته، كما قال سبحانه: [إِنَّما يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ]... وأما ثانياً: (وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ) أي الذكر الجميل بعد موته.
ــــ ويستمر الإمام في عقد المقارنة ما بين المال والعلم إلى أن يقول (ع): (هَا، إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً ـــ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ـــ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً!) أمنية يتمناها الإمام.. أن يجد مَن يستطيع فهم هذا العلم وتحمّل مسؤولياته، وأن يكون أميناً عليه، فلا يستخدمُه لأهوائه، ولا يتلاعبُ به، ولا يضيّعُه... فكيف وجدَ الإمامُ الناسَ في زمانه من حيث تعاملهم مع العلم؟
ــــ قال في وصف النموذج الأول: (بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً) فطيناً يفهم ما يُلقى عليه سريعاً ولكن مشكلته أنه كان: (غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا) مستعملاً عِلمَه للدنيا، ومستعملاً تديّنَه أو مظهره الديني لبلوغ مآربه الدنيوية.
ــــ (وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) فهو يترفع عليهم بما لديه من علم، ويرى نفسه أعلى شأناً منهم بدلاً من أن يدفعه علمه للتواضع للناس والرأفة بهم. وهذا من أشد الأمور تدميراً لروحية العلماء، وشخصياتِهم الاجتماعية، وحركتِهم الرسالية، وفاعليتِهم في الحياة.
ــــ (وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ) فيستعمل ما لديه من العلم، والأدلة، والأسلوب للترفع على أولياء الله.
ــــ وهناك نموذج آخر من طلبة العلم، وهو نموذج الإنسان الذي لا يحرّك عقله.. هو منقاد لحملة العلم، ولكن على غير وعي ولا فهم.. ولذا يسهل أن يؤثِّر عليه الآخرون وأن يبدِّل آراءه ويتنازل عنها، ساعة مع هذا وساعة مع ذاك.. قال (ع): (أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ، لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ) صدره (يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، أَلَا لَا ذَا وَلَا ذَاكَ).
ــــ النموذج الثالث من طلبة العلم هو نموذج عبدِ الشهوة واللذة: (أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ) الذي يسخّر علمه أو تلبّسه بعنوان طالب علم الدين من أجل ذلك.
ــــ والنموذج الرابع: (أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَالِادِّخَارِ) هذا عبد المال، وما أكثرهم في هذا الزمان! وكلاهما: (لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْ‏ءٍ، أَقْرَبُ شَيْ‏ءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ) التي تدور في البراري بحثاً عن الماء والكلأ فقط.. وأما تنمية الحالة الإيمانية والروحية والأخلاقية والرسالية فلا.
ــــ والنتيجة؟ يقول (ع): (كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ) صورة سوداء قاتمة، يحسب الإنسان معها أن الإمام (ع) قد فقد الأمل نهائياً.
ــــ وإذا به (ع) يفتح نافذةً يُطلُّ بها على أمل متجدد، قال: (اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ. وَكَمْ ذَا؟ وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ ـــ وَاللَّهِ ـــ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْراً. يَحْفَظُ اللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ).
ــــ وكيف استطاعوا الوصول إلى هذه النتيجة؟ وكيف بلغوا هذا المقام؟
ــــ أوّلاً: (هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ) فهُم يكوّنون قناعاتِهم على أساس الدليل، لا على أساس الإرث والتقليد.
ــــ ثانياً: (وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ) وبالتالي يُقبلون على الأمور ويحددون مواقفهم عن وعي ووضوح في الصورة، لا اتباعاً أعمى، ولا انقياداً للهوى.
ــــ ثالثاً: (وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ) تجاوزوا الصعاب واستسهلوها لأنهم ما كانوا من المترفين الذين ينهزمون أمام أقل تحدٍّ.
ــــ رابعاً: (وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ) لأن همَّهم وغايتَهم رضا الله وإحقاق الحق وحسن العاقبة، لا إرضاء الناس، ولا تلبية الشهوات، ولا التعصب للتحزّبات الباطلة. فلو وجدوا أن أتباع الحق قليلون لم يستوحشوا.
ــــ خامساً: (وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى) برضا الله.. بالآخرة.. لا بالدنيا ومتاعها وزخرفها.. على عكس الصورة القرآنية التي قُدِّمت في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:175-176].
ــــ وختم الإمام رائعته هذه بقوله: (أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ. آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ).
ـــ وسنتعرف في الخطبة الثانية على نموذج ومصداق للعلماء الذين كان الإمام (ع) يتشوق لرؤيتهم.