خطبة الجمعة 3 رجب 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: انتهاك الأشهر الحرم

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ). التوبة:36.
ـ أراد الله تعالى لحركة القمر بالنسبة إلى الأرض أن تكون منطلَقاً لحساب الزمن: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [يونس:5]، لما في ذلك من أهمية مرتبطة بتنظيم الناس لحياتهم، ولعباداتهم أيضاً... هذا من الناحية التكوينية.
ـــ وأراد الله من الناحية التشريعية أن يجعل لبعض تلك الأشهر خصوصية تعود على الناس بالفائدة الكبيرة، لأن التشريعات في نهاية المطاف إنما جُعلت لصالح الإنسان: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف:157].
ــــــ فما هي هذه الأشهر؟ وما هي الخصوصية؟
ــــ واحدة من المؤثرات السلبية في حياة الإنسان انفلات غرائزه عن السيطرة لأسباب مختلفة. ومن أمثلة تلك الغرائز: حب الذات، والتملك، وما له علاقة بالبطن، والفرج، والقوة الغضبية.
ـــــ وقد برزت الأخيرة منها بوضوح منذ بداية وجوده على الأرض: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:27-30].
ــــ ولهذا الانفلات تبعات عديدة أبرزها فقدان الإحساس بالأمن والسلام، وهو من أشد ما يربك حياة الإنسان، ويجعله يعيش حياةً غير سويّة، مليئة بالقلق، وسوء الظن، والانفعال السريع، وغير ذلك من التأثرات النفسية والجسدية.
ــــ ومن هنا نجد أن أهم صفة في جنة الآخرة هي التنعّم بالأمن والسلام، حتى أسماها الله دار السلام: (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:127].
ــــ فلا خوف من عدو، ولا من حسود، ولا من مرض، ولا من حوادث سماوية، ولا من وسوسة شيطان، ولا من فقر، ولا من جوع، ولا غير ذلك من أسباب عدم الإحساس بالأمن.
ـــ (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلاَّ قِيلا سَلامًا سَلامًا) [الواقعة: 25-26].
ـــ لذا أراد الله من خلال تشريعين، الأول منهما: تحديد الزمن الحرام (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).. والثاني: تحديد الأرض الحرام (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67] أن يجعل الإنسان في تجربة عملية للسلام في العلاقات البينية، ولو كانت تلك التجربة محدودة زمنياً ومكانياً.. تجربة يتذوق فيها طعم هذه النعمة، ولعله يسعى لتعميمها في حياته كلها.
ــــ ويبدو أن هذا التشريع في بعديه الزماني والمكاني انطلق على عهد الخليل إبراهيم (ع)، وأصبح من العناوين ذات الأهمية الكبرى عند العرب على مر الزمان، وخافوا إلغاءها، خاصة بعد أن تلمّسوا وتذوّقوا الراحة فيها من خلال الأمن.
ـــ د. جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: (وكان الجاهليون يعظمونها، ولا يستبيحون القتال فيها، حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه).
ـــ ولكن بعضهم تدريجياً لجأ إلى التحايل على التشريع الزمني طمعاً واستجابةً للأهواء، فسوّلت لهم أنفسهم ابتداع فكرة النسيء، التي تعني تبديل بعض الأشهر الحُرم بأخرى، وذلك لمفاجأة العدو أو
الخصم بالغزو أو العدوان، أو رغبة في الإسراع في الأخذ بالثأر.
ـــ هذا التلاعب في التشريع ذمَّه الله بشدة واعتبره نوعاً من الكفر بنعم الله وتشريعاته: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة:37].
ـــ وجاء الإسلام فأكد حرمة تلك الأشهر وحرمة الحرم المكي، كما أعطاها أبعاداً أخرى كما عن زرارة عن الباقر(ع): (سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً خَطَأً فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: تُغَلَّظُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ أَشْهُرِ الْحُرُمِ).
ـــ هذه التشريعات التي جاءت لمصلحة المسلمين ما رعوها حقَّ رعايتها، وكانت البداية المشؤومة على يد بني أمية حين كسروا حرمة الشهر الحرام فسفكوا دم الحسين (ع) وأنصارَه في محرم.. ثم كسروا حرمة الأرض الحرام، حين نصبوا المنجنيق ورموا الكعبة المشرفة مرتين على عهد يزيد وعبدالملك بن مروان، ثم هاجموا المتحصنين في البيت الحرام وقتلوا عبدالله بن الزبير وأنصارَه.
ــــ وهكذا بدأت هذه المفاهيم تغيب وتختفي تدريجياً.. حروب، وعدوان، وعدم احترام الأشهر، والأرض الحرام.. إلخ. والمسلمون هم المتضررون في نهاية المطاف، كما قالت الآية: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).
ـــ والمسؤولية اليوم تقع على علماءِ الإسلامِ، الأمناءِ على الدين، ورثةِ الأنبياء، بما استُحفِظوا من كتاب الله، بأن يُعيدوا الحياةَ إلى المفاهيمِ والتطبيقاتِ المتعلقةِ بالأشهرِ الحرُمِ والأرضِ الحرام لاسيما وقد ضجّ الناس من هذا الكمِّ الهائلِ من سفكِ الدماءِ، والعدوانِ على الأبرياء، وتدميرِ ما تبقّى من مقدَّرات الأمة، كل ذلك باسمٍ الإسلام، والإسلامُ من جرائمٍهم بريء. كما وأن شهرَ رجبٍ الحرام يمثّل الفرصة لأن نُعوّد أنفسَنا نحن كأفراد على اقتلاع كل الأحقاد التي تُرهق قلوبَنا، وكلِّ التّوتّرات التي تُربكُ حياتَنا، وأن نستبدلَها بلغةِ التّواصلِ والمحبّة. وسنكتشف من خلال ذلك، أنَّ الحياة ستكون أفضلَ وأجملَ وأكثرَ سعادةٍ، وسيكون ذلك هو السّبيل لبلوغ رضوان الله، لأنّ الحقد حالقةٌ للدّين والدّنيا.