خطبة الجمعة 25 جمادى الآخرة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: تقرير الإسكوا والصمت المخجل

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران:75-76]
ــــ في اللغة العبرية كلمة (جوييم) جمع لكلمة (جوي) وهي تعني (القوم أو الشعب).
ــــ ثم تطور معنى هذه الكلمة في العقيدة اليهودية من الإشارة إلى الأمم والشعوب الأخرى لتستخدم في الذم والقدح، ثم أصبحت ذات مدلول على الدونية ومرتبة أقل من مرتبة الإنسان، أي أن (الأغيار) عنصر آخر دون العنصر البشري تماماً كما الفرق بين الإنسان والحيوان.
ـــ ولذا فإن التوراة تستعمل كلمة (إنسان) في الإشارة إلى اليهودي فقط دون غيره من البشر.
ــــ وترتَّب على ذلك سن مجموعة من التشريعات التي تُميّز في أحكام التعامل بين ما لو كان الطرف الآخر من اليهود أو من الأغيار والذين عبّرت عنهم الآية السابقة بعنوان: (الأميين).
ــــــ من بين هذه التشريعات على سبيل المثال:
ــــ ممنوع إنقاذ الجوييم إلا إذا كان هناك خطر إثارة العداء ضد اليهود.
ـــــ يجوز، بالعنوان الأولي، سرقة الجوييم، وهذا السارق معفيّ من العقوبة.
ـــــ ممنوع مدح الجوييم ومباركته، وما جاء في التوصية التوراتية بعدم الكراهية فإنما يخص اليهودي.
ــــ من يضرب الجوي ويؤذيه معفي من دفع الدية، وإذا حدث العكس فيُحكم عليه بالموت.
ــــ والآية القرآنية التي تلوتها تعبّر عن واحدة من هذه التشريعات الكثيرة في هذا المضمار.
ــــ ومن هنا فإن مسألة الفصل العنصري حاضرة في التفكير اليهودي، وهي مشرعَنة عندهم.
ــــ في المقابل، وانطلاقاً من تجريم التمييز العنصري، قامت الأمم المتحدة بصياغة اتفاقية دولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، وتم التوقيع عليها عام 1973.
ــــ وتم تعريف هذه الجريمة بأنها: (أعمال غير إنسانية ارتُكبت لغرض إنشاء وإدامة هيمنة فئة عنصرية من الأشخاص على أية مجموعة عرقية أخرى أو أشخاص وقمعهم بشكل منهجي).
ــــ المادة الأولى من الاتفاقية تضمنت ـــ مع الاختصار ـــ ما يلي: (الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية، والأفعال اللا إنسانية الناجمة عن سياسات وممارسات الفصل العنصري وما يماثلها... هي جرائم تنتهك مبادئ القانون الدولي.... وتشكل تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين).
ـــــ وفي المادة الرابعة: (تتعهد الدول الأطراف في هذه الاتفاقية باتخاذ جميع التدابير، التشريعية وغير التشريعية، اللازمة لقمع أو ردع أيَّ تشجيعٍ على ارتكاب جريمة الفصل العنصري والسياسات العزلية الأخرى المماثلة أو مَظاهرها، ولمعاقبة الأشخاص المرتكبين لهذه الجريمة).
ــــ وفي نفس السنة، أنشأت الأمم المتحدة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا).
ـــ قبل بضعة أشهر قدّمت د. ريما خلف وهي الأمين العام للإسكوا ومعاونة الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً نصّ ـــ وبالأدلة والتفاصيل ــ على أن (إسرائيل) تمارس الفصل العنصري تجاه الشعب الفلسطيني، وأنها بالتالي قد انتهكت:
1ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري بكل أشكاله.
2ـ الاتفاقية الدولية بشأن قمع جريمة الفصل العنصري ومعاقبة مرتكبيها.
3ـ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي يدرج الفصل العنصري كجريمة.
ـــــ هذا المضمون أغضب إسرائيل والولايات المتحدة، واستسلم لغضبهما الأمين العام للأمم المتحدة، وطالب بسحب التقرير، وهو ما رفضته د. خلف، والتي قد اختيرت من قبل صحيفة الفايننشل تايمز كإحدى الشخصيات الخمسين الأولى في العالم التي رسمت ملامح العقد الماضي.
ــــ وبالفعل تم تقديم التقرير، فسارع الأمين العام بسحبه، والطريف أنه برر ذلك بمخالفة د. خلف لآليات تقديم التقارير لا المحتوى! ولا أدري إلى متى يتم استهبال الناس واستسخاف عقولهم!
ـــ وفي خطوة شجاعة، قامت د. ريما خلف بتقديم استقالتها الجمعة الماضية، وتم قبول الاستقالة.
ــــ وقد ختمت نص استقالتها بالكلمة التالية: (إنني أرى أن واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادةَ حقٍّ عن جريمةٍ ماثلة تُسبِّب كلَّ هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر. وبناء عليه، أُقدِّم إليك استقالتي من الأمم المتحدة).
ــــ إن الفضيحة الدولية المدوّية لسحب تقرير الإسكوا المتضمن للأدلة والتوثيقات الخاصة بإثبات ممارسة الكيان الصهيوني للفصل العنصري بحق الشعب الفلسطيني وبصورة ممنهجة ومستمرة، وما تَبِع ذلك من استقالة الأمين العام للإسكوا، يجعلنا ـــ من جديد ـــ قلقين بشدة من استمرار فقدان الأمم المتحدة لمصداقيتها وتهاوي حياديتها المفترَضة تجاه القضايا الدولية المختلفة، وأسلوبِ إدارتِها للملفات الإنسانية كلما كانت المسألة تمس الكيان الغاصب من قريب أو بعيد... وإن كانت تلك فضيحة، فإن الأكبر منها أن لا نجد أية ردود فعل عربية أو إسلامية رسمية تُذكَر، لا على مستوى الفعل ولا القول... ويبدو أننا بتنا نتحسّر على الزمن الذي كنا نسخر فيه من بيانات التنديد الرسمية الذي بات واضحاً أنه قد ولّى ولربما لن يعود.. ليحُلّ الصمتُ المطبِقُ محِلَّه.