خطبة الجمعة 18 جمادى الآخرة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الخطيئة الأصلية


ـــــ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:30].
ـــ لماذا نتحمل نحن خطيئة أبوينا آدم وحواء ونعيش عالم الابتلاء والاختبار والفتنة في هذه الدنيا، بدلاً من الكون والحياة في الجنة كما كان عليه الأمر في البدء؟
ـــ لاسيما وأن القرآن الكريم قد نص في خمسة موارد على التالي: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164].. كما أن العقل ـــ بغض النظر عن النص ـــ يحكم بذلك ومن منطلق العدل.
ــــ يبدو لي أن هذا السؤال مستعار من الثقافة المسيحية المتعلقة بما يعرف (بالخطيئة الأصلية) وليس سؤالاً أصيلاً في الإسلام.. تماماً كما هو حال الفكرة التالية: (المرأة أساس كل خطيئة) انطلاقاً من قصة آدم وحواء والأكل من الشجرة، على اعتبار أن الشيطان خدع حواء، فقامت هي بإغواء آدم، فأكل من الشجرة.
ـــ أي لولا إغراؤها لآدم، ما غضب الله عليه، ولما طردهما من الجنة إلى الدنيا دار الشقاء والنكد.
ـــ هذه الفكرة مستعارة من ثقافة المؤمنين بالتوراة المتداولة، ولا تمتُّ إلى الإسلام بصلة.
ــــ في القرآن الكريم حديث واضح عن تحمل آدم وحواء لمسؤولية ما جرى، دون أي حديث عن استقلالية حواء في الخطيئة، أو أنها تمثّل الأساس في الخطيئة.
ـــ قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ... وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [الأعراف:20-22].
ـــ نعم، لو عدنا للنص التوراتي فسنجد القصة مختلفة، وتصب في اتجاه تحميل حواء المسؤولية.
ـــ نعود الآن إلى ما كنا نتحدث عنه، وهو استعارة السؤال حول تحميل الأجيال البشرية لخطيئة الأب (آدم)، والتي يتداولها بعض شبابنا ويطرحونها ضمن إشكالاتهم على الخلق والحياة والسعادة والشقاء والعدل الإلهي.
ــــ لا يوجد في العهد القديم والأناجيل الأربعة حديث عن تحمّل الأجيال البشرية لخطيئة آدم.
ــــ بل طُرحت هذه الفكرة من قبل (بولس) الرسول واسمه شاؤول (ت 64 أو 67 م) في رسالته إلى أهل روما حيث قال: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ).
ــــ وقد اعتُبر هذا الرجل واضعَ أسس الكثير من مفردات العقيدة المسيحية المحرَّفة.
ــــ ثم زاد عليها (أوغسطين) (ت430م)، وهو أحد الشخصيات المركزية في المسيحية وتاريخ الفكر الغربي على حد السواء، فقد أثّرت كتاباته في اللاهوت المسيحي الغربي وفي الفلسفة الغربية ككل، حتى أطلق عليه لقب (القديس).
ــــ أوغسطين عمّق فكرة الخطيئة الأصلية، وأعطاها أبعاداً جديدة. قال: (خطيئة آدم كانت كبراً، لأنه اختار أن يعيش محكوماً بسلطته بدل أن يعيش تحت سلطة الحكم الإلهي، وكانت كفراً لأنه لم يؤمن بالله. وكانت قتلاً، لأنها تسبّبت في دخول الموت إليه. وكانت زنىً معنوياً، لأن روح آدم النقية قد أنصتت للتملق المُغري للحية. وكانت سرقة، لأنه مس الطعام الذي مُنع من تناوله. وكانت طمعاً، لأنه طمع في أكثر مما كان يكفيه. مهما أمعنا في حقيقة أي خطيئة فسنجد لها حضوراً في الخطيئة الأولى)! ثم قال: (جميع البشر، الذين ولدوا من آدم وامرأته التي أوقعته في الخطيئة، والتي شاركته في نيل العقاب، جميعهم تلوّثوا بالخطيئة الأصلية).
ــــ أما لو عدنا إلى القرآن الكريم، فلن نجد أثراً لمثل هذا الفكرة، بل سنجد الحقائق التالية:
1ـ خُلق هذا الجنس البشري ابتداء من آدم (ع) إلى آخر فرد لكي يعيش في المرحلة الأولى من وجوده في الأرض لا في جنة الخلد: ‭(‬وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
2ـ من طبيعة وجود الجنس البشري في الأرض أن يكون في حال اختبار وفتنة: (‬أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2-3].
3ـ حتى في بدء حياة آدم وحواء في الجنة كانا في حالة اختبار وتحمل المسؤولية والثواب والعقاب: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:35].
4ـ ومن هنا فإن ارتكاب الإنسان للمعاصي والذنوب هو جزء من طبيعة وجوده في الأرض، وهذا ما انتبه إليه الملائكة حيث: (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء).
5ـ لم تكن الجنة التي عاش فيها آدم وحواء جنة الخلد الأخروية.. بل كانت جنة أرضية.. في جنة الآخرة لا اختبارات ولا مسؤوليات.. غاية ما هناك أن تلك الجنة كانت مميزة من حيث توفر الطعام والشراب وسائر الاحتياجات اليومية الأساسية للإنسان من دون بذل جهد: (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) [طه:118-119].
ـــ لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسانَ، بدءً من آدم وحواء، إلى آخر فرد سيولد، ليعيش في المرحلة الأولى من وجوده في هذه الأرض، على أن يكون الاختبارُ حالةً أصيلة في حياته وأمراً محتوماً لا مفرَّ منه، ولا علاقة لهذا بإخراج أبويه من الجنة التي ذُكرت في تفاصيل قصتِه.. بل لقد بدأ الاختبار وبدأت المسؤولية منذ أن كانا فيها، وكانت البداية حيث نهاهما الله عن الأكل من تلك الشجرة.‬‬ ومن هنا نقول أن مقولة لولا الخطيئة الأولى لآدم وحواء لما عانت الأجيال البشرية ما تعانيه اليوم ليست إلا فكرة خاطئة، وعقيدة مستقاة من اللاهوت المسيحي الذي أسسه بولس وطوّر مضمونه أوغسطين بعنوان الخطيئة الأصلية، مما يتعارض تماماً وبكل وضوح مع إيمان المسلم بما جاء في كتاب الله العزيز.. إننا لم نولد مع الخطيئة كما قالوا، بل ولدنا على الفطرة السليمة، ويبقى كتابُ أعمالِ كلِّ إنسان نقياً من الخطايا والذنوب إلى أن تصدر عنه بعد بلوغه سن التكليف أولُ خطيئةٍ عن عمد وعلم، لتبدأ بذلك رحلةُ الاختبار في الحياة، وتُفتَح له أبواب التوبة والمغفرة، ليقرر بنفسه مصيرَه الأخروي.