لي كوان يو... مقال للشيخ علي حسن غلوم

تستعرض الآيات القرآنية (136-150) من سورة الأنعام عدداً من البدع التشريعية عند مشركي مكة فيما يرتبط بالأنعام، فهذا حلال وهذا حرام، وهذا للآلهة، وهذا للكهنة.. إلخ القائمة. وقد أنكر الله سبحانه هذه التشريعات الزائفة وطالب المشركين بالإتيان بالبراهين على أنها من عند الله. قال تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(الأنعام:143-144) منعطف رائع:
إلا أن الملفت للنظر أن الله سبحانه حوّل القضية في الحديث عن التحريم ـ بعد هذه الآيات ـ إلى جوانب أخرى هي الأساس في تنظيم الحياة وتكوين الشخصية الإيمانية، فقال: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام:151-153).
إذاً.. إذا أردتم الحديث عما هو حرام، فهذه هي أولوياتكم، وهذه هي التي ترسم لكم معالم سلوككم، كما الانتهاء عنها يضعكم على جادة الحق، ويجنّبكم غضب الله.
انقلاب في سلم أولوياتنا:
وإذا أردنا أن نقيس معطيات التدين وفق المفهوم الدارج عند المسلمين، فسنجد ذات المشكلة تطفو على السطح: انقلاب في سلم الأولويات ومعايير تحديد التدين عند الأفراد. فالتركيز قائم على جانب محدد من الفقه الفردي، حتى أنك تجد الرجل بعد عمر مديد من الحضور في المساجد والحسينيات والأجواء الدينية في قمة الاحتياط والاهتمام بوضوئه وغسله وتفاصيل عباداته، وفي ذات الوقت في قمة سوء الخلق في علاقته بأسرته، الأمر الذي يمثّل ازدواجية في شخصيته الإيمانية، وبعيداً عن توصيات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لأهله).. (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً وخيركم لأهله).. وعن الإمام علي عليه السلام: (لا يكن أهلك وذوو ودك أشقى الناس بك) (الله الله في النساء وفيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به نبيكم أن قال: أوصيكم في الضعيفين: النساء وما ملكت أيمانكم) وعن الإمام الصادق عليه السلام: (رحم الله عبداً أحسن فيما بينه ووبين زوجته، فإن الله عزوجل قد ملّكه ناصيتها، وجعله القيم عليها).
وعلى المستوى العام أيضاً:
وعلى المستوى العام نجد أن ما كان يدور في مجلس الأمة طوال سنوات من قضايا واستجوابات وتهديدات تعيش ـ في كثير من مفرداتها ـ ذات الحالة من انقلاب الأولويات والتركيز على القضايا الهامشية والهروب من المشكلات وقضايا التنمية الضرورية، الأمر الذي أدى إلى أن ينحل المجلس المرة تلو الأخرى، وفي كل مرة توصف تلك الدورة بأنها أسوأ المجالس على الإطلاق!!
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى السلطة التنفيذية التي أضاعت بوصلتها منذ زمن غير قريب، فوجدت وسائل الإعلام في ذلك مادة دسمة جرّت من خلالها البلد إلى حالة اللاإستقرار السياسي.. في أجواء قريبة من تلك الأحاديث عما هو محرّم من الأنعام وما هو مباح.. بينما الوضع كله يعيش التخبط والتوهان.
التجربة السنغافورية:
(لي كوان يو) أول رئيس وزراء لسنغافورة، ترأس الحكومة من 1959 الى 1990. وقد شهدت سنغافورة خلال حكمه نقلة كبيرة تحولت فيه من بلد نام إلى واحدة من أكثر دول العالم تقدماً. فحين استقلت في العقد السادس من القرن العشرين كانت مجرد محطة تجارية نائية ثلاثة أرباع دخلها من عائدات القاعدة العسكرية البريطانية، و دخل الفرد الحقيقي أقل من 1000 دولار في السنة.
ومن خلال العمل المدروس والجاد والوطني من قبل هذا الرجل أصبحت سنغافورة حاضرة عالمية مزدهرة تمتلك أنجح شركة طيران في العالم، وأفضل مطار جوي، وأنشط ميناء بحري، وتحتل مرتبة عالمية متقدمة جداً في متوسط دخل الفرد حيث يبلغ 30.000 دولار أمريكي.
وقد اتخذ (لي كوان يو) عدة قرارات حازمة لتحقيق هذه النقلة النوعية:
1. تحديد النسل بشكل حازم، ولما تحقق الهدف وفق الدراسات العلمية غيرت الدولة سياستها السكانية وحفّزت المواطنين لزيادة النسل، مع تخصيص ميزانية تقد بـ 300 مليون دولار.
2. التعليم: بالتعميم والتحديث باعتماد أفضل المناهج في العالم، والآن تتصدر بلده الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية.
3. التوظيف: اعتمد بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية قوامها حوالي 50 ألف موظف لا أكثر، وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة، على أن يتم التعيين في الوظائف عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع، ويحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص إن لم يكن أعلى.
4. اعتماد الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الاداري والمالي إلى حد أن سنغافورة تتصدر المراتب الأولى لمؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.
5. قرارات صارمة حول البيئة والنظافة: وتعد سنغافورة الآن من أكثر بلدان العالم نظافة.
6. تحقيق الأمن الوطني الداخلي.
كلمات معبرة:
ويعجبني في هذا المقام أن أنقل هذه الكلمات المعبرة حول إنجاز هذا الرجل كتبها منير فياض: (لي كوان يو، كان يحلم بأن يبني وطناً للناس وليس له. ولذلك بنى المصانع لا الإذاعات، وأمر الناس بالعمل لا بالإصغاء إلى الاذاعة. وأغلق السجون ليفتح المدارس. وطبّق حكم القانون لكنه لم يحوّل بلاده إلى سجن تُطعَم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته بورما. وكان قبل أي شيء حريصاً على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ أمريكا. وجعل لكل مواطن بيتاً بدل أن يكون لكل ألف مواطن كوخ من الصفيح. ويكاد لا يوجد في سنغافورة شيء لم يلحظه بصره أو ترقبه عيناه المتيقظتان: بدءاً من اختيار النباتات والشتلات لتحويل سنغافورة إلي واحة خضراء غناء، وانتهاء بحثِّ الشباب - بشكل سافر وصريح وجريء ـ على الزواج من فتيات على نفس مستواهم الثقافي).
نحن بحاجة إلى مثل هذه العقليات التي تريد أن تنتشل البلد مما هي عليه اليوم، في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبيد أبناء هذا الوطن تحقيق ذلك ـ لا من خلال اللامبالاة والبحث عن المصالح الضيقة ـ بل من خلال اختيار مَن يكون بهذا المستوى، وإلا ليس لأحد الحق في التبرّم من سوء أداء الجهازين. يقول الله سبحانه وتعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم:41).
نشر هذا المقال بجريدة الوطن بتاريخ 4 إبريل 2009 في صفحة منتقى الجمان