خطبة الجمعة 27 جمادى الأولى 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: تعديل المادة 79 من الدستور


ــــ تنص المادة 79 من الدستور الكويتي على التالي: (لا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة وصدّق عليه الأمير).
ــــ وأثير مؤخراً في مجلس الأمة موضوع تعديل هذه المادة ليضاف إليها بند الموافقة للشريعة الإسلامية لتصبح المادة هكذا: (لا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة وصدّق عليه الأمير وكان موافقا للشريعة الإسلامية).
ــــ وليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها هذا الطلب، ففي عام 2012 تقدم عدد من النواب باقتراح مماثل، وقوبل بمذكرة وجهها أمير البلاد، بيّن فيها أن الأخذ بهذا المقترح من شأنه إثارة الخلافات السياسية، والفتن الطائفية المذهبية، ما يهدد الوحدة الوطنية.
ــــ ومن هنا اختُتمت المذكرة الأميرية بعبارة: (نجد أنه من المتعذِّر قبول الاقتراح).
ـــ ولا أريد هنا أن أتحدث باسم طائفة معينة أو جماعة سياسية، بل أعبر عن رأيي الشخصي الذي أقدّمه من أجل التدبّر فيه، وإثارة جو من التفكير فيما له علاقة بمستقبل البلد.
ــــ كما أنني لست في وارد إصدار الأحكام على نوايا المتقدمين بالطلب، والتجمعات السياسية والدعوية التي أصدرت لاحقاً بياناً تأييدياً لذلك، وهل المسألة مجرد إبراء للذمة والالتزام بوعود قُطعت في أيام الانتخابات، أو لإثبات الوجود السياسي، أو وسيلة ضغط لإبرام بعض الصفقات مع الحكومة والحصول على بعض المكتسبات، أو أنها فعلاً خالصة لوجه الله تعالى.
ــــ أنا أريد أن أطرح سؤالاً بسيطاً: الكويت ـــ اليوم ـــ تواجه تحديات عديدة وحساسة جداً، وبعضها قد يكون خطيراً على المدى المنظور.. ولولا استمرار نوع من الوفرة المالية لشهدنا بعض التداعيات غير المحمودة.. فهل سيكون لتعديل هذه المادة أي أثر إيجابي في مواجهتها؟
ـــ سأتحدث عن خلل واحد: الفساد. وهو خلل مستفحل، ويعاني منه البلد بشدة.
ــــ فلو افترضنا الآن إقرار هذا التعديل.. هل سنتخلص من أنواع الفساد؟ الاختلاسات، والرشاوى بأنواعها، وهدر المال العام، والمحاصصة، والتعيينات القائمة على المحسوبيات السياسية والحزبية والاجتماعية والطائفية، وعلى الصفقات السياسية، لا على أساس الكفاءة والاستحقاق؟
ــــ مئات الشواهد والتجارب تؤكد على أن بعض الجهات الداعمة لمشروع التعديل هي جزء لا يتجزأ من حالة الفساد هذه، إن لم يكن هذا البعض من المؤسسين لها.
ــــ للأسف، فإن أية وزارة أو مؤسسة وقعت بأيديهم طوال العقود الماضية، شهدت حالة من الفوضى الإدارية الناجمة عن التعيينات القائمة على المحسوبية الحزبية والطائفية، لا على الكفاءة.
ـــ وكانت لهذه الفوضى تبعات على المدى الطويل، لأنها لم تتوقف عند هذه التبديلات، بل ترسخت وتفرعت وأصبحت عائقاً أمام تطوير الأداء الحكومي وعلى مستويات مختلفة.
ـــ وهكذا تجد هذه الجهات دائماً على قائمة المساومات والصفقات السياسية والإدارية والمالية على حساب المصلحة العامة للبلد والمواطنين.
ـــ والطريف أنك حيثما يممت وجهك، في هذا البلد أو ذاك أو ذاك، وجدت هذه الصورة متكررة.
ـــ المسألة لها جذورها (الفكرية)، ولا يمكنها الخلاص منها، لأنها من أهم الأسس (الفكرية) بالنسبة إليها. ومن أهم عناصر بنائها حديث الفرقة الناجية.. 72 فرقة في النار، وواحدة فقط هي الناجية.
ـــ هذا (الفكر) الإقصائي الإلغائي لا يسمح ولا يعطي مجالاً ولا يفرّخ إلا هكذا سلوك سياسي وإداري واجتماعي.
ـــ وصدقوني أن جُلَّ همِّهم ومبلغ غايتِهم وطموحِهم من تعديل المادة هي مسألة إقامة الحدود بقطع الأيادي والرقاب وجلد الناس أمام الملأ العام، وإن أخفوا ذلك وراء بعض الشعارات الشمولية، والعناوين الرنانة، والضرب على وتر المشاعر والأحاسيس الدينية والوطنية.
ــــ وبتعبير أمير المؤمنين(ع) كما روي عنه: (مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ).
ـــ ففي تصريح لأحد الداعمين لمشروع تعديل المادة 79 من الدستور يقول: (هناك الكثير من القوانين المخالفة للشريعة، سواء في قانون الجزاء أو غيره). نعم قانون الجزاء.. هذا مبلغ همِّهم.
ـــ ولك أن تتخيل أنهم انطلقوا بعد تعديل المادة وبهذه العقلية والروحية نحو المناهج الدراسية، والمشاريع التربوية، ونحو القوانين المرورية، والأماكن العامة... كيف ستكون صورة البلد؟
ــــ نحن كمسلمين نؤمن ونسلّم بقوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:45]، وبقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36]. ولكن ـــ وبكل صراحة ـــ نقول: إن شريحة كبيرة من أبناء هذا الوطن، وعلى ضوء الخبرات والتجارب المتراكمة، لا تثق بالمشاريع التي تقدمها الجهات التي تقف وراء المطالبة بتعديل المادة التاسعة والسبعين من الدستور الكويتي، ومن قبلها المادة الثانية منه، بل وتتوجس من النتائج التي ستترتب على ذلك، ولا سيما مع حضور الفكر والمنهج الإقصائي ــ وبقوة ــ لدى هذه الجهات، والدور القديم الجديد للبعض منها في ما يعاني منه البلد من صور الفساد والتردّي في الأداء السياسي والإداري والتربوي.
إن الكويت الغالية للجميع.. تسعُنا وتسعُكم، وتحتَضِنُنا وتَحتَضُنُكم، وقد عمّ اللهُ عليها من خيراته ما يكفي الجميع، ويفيض، فتعالوا ونحن نحتفل بأعيادها الوطنية لنفكر بجدّية فيما يخلّصها مما علق بها من أدران الفساد والتخبط وهدر المال العام، وذلك ضمن مشروع وطني يتوافق عليه الجميع بعيداً عن المزايدات والمهاترات والتكسّبات والتحزّبات.