خطبة الجمعة 20 جمادى الأولى 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: هل الحل في العلمنة؟


ـــــ في أجواء المصالحة في سورية، وفي خضم الحديث عن التخطيط للمرحلة السياسية القادمة فيها، تحدث البعض عن أن خلاص سورية والحل الأمثل لها وطوق نجاتها: الدولة العَلمانية.
ــــ قبل كل شيء، لابد من تذكير سريع حول منشأ العلمانية، ومفهومها الأشمل، ودلالاتِها الأوسع.
ـــــ ارتبط الإنسان ــــ منذ ظهوره على الأرض ــــ بالإله الخالق المالك المدبر.. وكانت الفطرة، والعقل والعلم والنبوات سبيله إلى ذلك. ولهذا الارتباط عدة أبعاد، من بينها العقدي، والعبادي، والتشريعي المتعلق بتنظيم العلاقة بينه وبين خالقه، وبينه وبين الإنسان، وبينه وبين البيئة التي يعيش فيها.
ـــــ إلا أن الممارسات السلبية الصادرة عن الذين قدَّموا أنفسَهم على أنهم الأمناء على الدين ومَن يمثّلون كلمة الله على الأرض، كتلك التي عبّر عنها النبي زكريا (ع) بقول: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) [مريم:5] كان لها دور في دفع بعض المجاميع البشرية نحو التمرد على ما هو ديني.
ــــ على سبيل المثال: بيع صكوك الغفران، وإصدار الأحكام الإلهية الأخروية على الناس سلفاً، فهذا في الجنة وذاك في النار، ومحاربة العلم والمعرفة، ومصادرة حرية التفكير بدعوى المحافظة على سلامة العقيدة وحمايتها، والتحالف مع الحكام والولاة الظالمين، وتقديم التبريرات الكفيلة باضطهاد الشعوب، وشرعنة الظلم والتعدي على الحرمات ونهب الحقوق.. وغير ذلك من الصور.
ــــ ومن هنا ظهرت في مجتمعاتٍ غربيةٍ الدعوةُ ـــ قبل عدة قرون ـــ لما يُعرف بـSecularism وتعني بالدقة: الدنيوية أو الدهْرية، وتُرجمت في اللغة العربية إلى (العَلمانية) اشتقاقاً من العالم (الدنيا).
ــــ وتحدث منظِّروها ـــ بدءً ـــ عن علمانيتين: جزئية: وتعني فصل الدولة عن الدين.. وشاملة: وتعني فصل القيم والأخلاق والدين عن حياة الإنسان ككل، واعتبار المادة الأساس في كل شيء.
ــــ وأضافوا أن الدعوة إلى العلمانية اليوم هي دعوة للعلمانية الشاملة، لأن فصل الدولة عن الدين قد تحقق فعلياً. ومن أحب الاطلاع أكثر على هذا الموضوع الحساس فيمكنه مراجعة كتاب (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) للمرحوم د. عبدالوهاب المسيري.
ــــ وهكذا ظهرت (الأصولية العَلمانية)، العلمانية التي تحولت إلى عقيدة مخاصِمة، تسعى لإلغاء الآخر المختلِف وتحاربه حتى لو حصل ـــ بأدواتها كالديمقراطية ـــ على بعض المكتسبات السياسية.
ــــ وعلى كل حال، فإن الحديث عن أن العلمانية هي الحل السحري أمام الدول العربية، وأن خلاص سورية في المرحلة القادمة يكمن في ضرورة كونه علمانياً، وأن العلمانية هي الضمانة الوحيدة للتعايش السلمي وتحقيق الرخاء، هو في الواقع حديث لا يغني ولا يسمن من جوع، ويأتي وكأن الحكومات التي عانت ـــ وما زالت تعاني ـــ منها الكثير من الشعوب العربية هي حكومات دينية، وأنه متى ما أمكن استبدالها بحكومات عَلمانية فسيتحقق الحلم!
ــــ فهل حزب البعث الحاكم في سورية الآن، والذي حكم العراق من قبل، حزب ديني مثلاً؟ وهل كانت الحكومات العربية التي ثارت عليها شعوبُها المضطهدة وهي تئن من وطأة الفساد والظلم وكل صور القهر والتعذيب وتكميم الأفواه واستحواذ الأقلية على الثروة الوطنية حكومات دينية؟
ـــ نعم، البعض يحلو لهم أن يسموها دولاً مدنية، إلا أنه في الدقة السياسية لا يوجد شيء اسمه دولة مدنية.. هذا مجرد تلاعب بالكلمات. وحكومات الغالبية العظمى من الدول العربية اليوم حكومات علمانية، فأين الصور الوردية الحالمة التي يقدّمها دعاة العلمنة في الأوساط العربية؟
ــــ ولذا فإن الحديث عن طبيعة الحكم القادم في سورية، والتغييرات السياسية التي تفرضها المرحلة المقبلة، وضمن التعقيدات الموجودة على الأرض، ومنها بروز العديد من الوجودات التي يدّعي كل منها أنه يمتلك الرؤية الإسلامية الشرعية الصحيحة للحكم ـــــ وهي أبعد ما تكون عن ذلك ـــ لا يجب أن يدور حول أسلمة الدولة أو علمنتها، بل يجب أن يكون حول كيفية ترسيخ العدالة، وإرساء منظومة الحقوق السياسية والاجتماعية والفكرية، وتمكين الكرامة الإنسانية على الأرض، وتفعيل مفهوم المواطنة والحرية المسؤولة، وتحقيق المصالحة المجتمعية، وإعادة بناء الإنسان والمظاهر المدنية، والبحث عن وسائل التنمية المختلفة، ومعالجة السلبيات الهائلة التي أفرزتها الصراعات الدامية في هذا البلد العربي الجريح. هذا هو ما تحتاج إليه سورية فعلياً، وبعيداً عن الحالة الشعارية، والعناوين البرّاقة، التي لا تأتي بجديد على الأرض، ولا تخدم إلا عصبيات أصحابها.. إن الموقف المتشنج لذوي الاتجاهات العلمانية، لن يعود على مجتمعاتنا بشئ سوى بالمزيد من التعقيد والصراعات والتفكك، وسيبقى الدين حاضراً مهما فعلوا.. فرحمة بأنفسكم.. ورحمة بوطنكم الجريح سورية.. اعملوا من أجل العدالة وإحقاق الحقوق والتنمية، ودعوا تعصباتكم جانباً.. فلا العلمانية في ذاتها هي الحل، ولا الدين في فهمنا المغلوط له هو طوق النجاة.