مشهورات لا أصل لها ـ بقلم الشيخ جهاد فرحات

مشهورات لا أصل لها (1)
بقلم الشيخ جهاد عبدالهادي فرحات
مقدمة:
يدور البحث في هذه المقالة حول بيان أنَّ بعض العبارات المشهورة على الألسنة وفي الكتب بعنوان كونها أحاديث ليست كذلك، وهي عبارات يُرجع إليها في مختلف المجالات الفقهية والعقائدية وغيرها، وغالباً ما يُبنى عليها الكلام ويستند إليها في الاستدلال وإفحام الخصم.
ولا يمكن أن تخفى أهمية هذا البحث على ذوي الألباب، لذا لا داعي للتعرّض إلى هذه الجهة.
وقد وجدت عبر تحقيقاتي بعضاً من هذه العبائر، وسمعت بعضاً آخر منها من بعض الأساتذة والزملاء، وبحثت ـ بعد الإلتفات إلى أهمية الموضوع ـ عن البقيّة في مظان مختلفة.
وأرجو أن يكون هذا الجهد المتواضع مقبولاً عند الله سبحانه، وأن يكون نواة لعمل أوسع وأشمل يشمل كل تراثنا وبمختلف مجالاته، حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود ويسفر الصبح لذي عينين.
وأرى من اللازم بدايةً التنبيه والإشارة إلى عدّة نقاط:
1- أنّه ليس هناك مناطّ خاصّ معتمدّ للشهرة، بل كل ما هو مشهور سواء في الكتب أو على الألسنة هو محلّ للدراسة والتحقيق في هذه المقالة.
2- قد أذكر أحياناً نماذج على مشهورية العبارة التي يراد البحث حولها، أو ما يذكره بعض المحققين عنها في تعليقاتهم على بعض الكتب، كل ذلك ليطّلع القارئ الكريم على حقيقة الموضوع، ويلتفت إلى أهميّته، ومدى تأثير مثل هذه العبائر في الأبحاث المختلفة.
3- قد أقوم بعملية تحليل واسعة أحياناً لإثبات ما أدّعيه، وقد أوفّق إلى ذكر الدليل القاطع على عدم كون عبارة ما حديثاً، وقد أصل فقط إلى مستوى أطمئن والقارئ الكريم فيه إلى ذلك.
4- لقد استفدت من الموسوعات المبرمجة الكمبيوترية كثيراً وإلى أقصى حدّ ممكن. وهذه وسيلة ممتازة لمثل هذه الأبحاث التي يريد الباحث فيها الإشراف بدقة وسرعة وشمولية على مادة بحثه.
1 ـ الرضاع لحمة كلحمة النسب
هذه العبارة مشهورة إلى حدّ قد لا تصدّق أنَّها ليست حديثاً، فقد ذكرها الشيخ النجفي في (الجواهر)(1)، والنراقي في (مستند الشيعة)(2)، والمحقق البحراني في (الحدائق)(3)، والسبزواري في (كفاية الأحكام)(4)، والشهيد الثاني في (المسالك)(5)، والمحقق الكركي في (جامع المقاصد)(6)، وابن فهد الحلّي في (المهذّب البارع)(7)؛ وغيرها من الكتب؛ مضافاً إلى العلاّمة الطباطبائي في (الميزان)(8) والفيض الكاشاني في تفسيريه (الصافي) و(الأصفى)(9).
ولم يوفّق أحدٌ من محققي بعض هذه الكتب إلى إيجاد مصدر حديثي ـ شيعي أو سنّي ـ لهذه العبارة، بل صرّح غير واحد منهم بذلك.
قال الشيخ محمود القوچاني محقّق (جواهر الكلام): (لم نعثر على هذه الرواية مع التتبع في مظانها، وإنما الموجود بهذا السياق قوله (: (الولاء لحمة كلحمة النسب)... نعم ذكر السيد الطباطبائي في تفسير الميزان ذيل الآية من سورة النساء ((الرضاع لحمة...)) ولا أعلم أنّه هل أخذه من كتب الحديث أو من الكتب الفقهية كالجواهر وأمثاله)(1).
ونصّ على عدم العثور عليه أيضاً محقّق (المسالك)، ومحقّق (الحدائق).
وقال الشيخ مجتبى العراقي محقّق (المهذّب البارع): (... لم أعثر عليه في كتب الحديث والاستدلال من العامّة والخاصة)(11).
إلاّ أنّ هذا الكلام الأخير غير تام على إطلاقه، حيث إنَّه صحيحٌ أنَّ هذه العبارة لا توجد في أيّ من الكتب الحديثية للعامّة أو للخاصة ولكنها موجودة في الكتب الاستدلالية للخاصة والتي قد أشرنا إلى أكثرها. نعم، لا وجود لها أبداً في الكتب الاستدلالية للعامّة، وهذا ما سوف يقوّي النتيجة التي سوف نخرج بها من البحث، فانتظر.
إذن لم يعثر أحدٌ من المحققين على مصدر هذه العبارة، ولكن أيّاً منهم لم يجرؤ على القول بأنّها ليست حديثاً، بل على العكس أدّعى المولى محمد صالح المازندراني ( بأنّها من جوامع الكلم وقصارها التي تقتضي بحسن تركيب ألفاظها أن تثبت في أذهان الناقلين، مثلها في ذلك مثل: (لا ضرر ولا ضرار)(12).
ولم يلتفت إلى عدم كونها حديثاً إلاّ السيد المحقّق الشهيد مصطفى الخميني ( حيث نصّ على عدم ثبوتها(13).
وبعد هذا العرض لابدّ من التركيز على النقاط التالية:
1- لا توجد هذه العبارة في أيّ من الكتب الروائية أو الاستدلالية للعامّة. وهذا يضع أمامنا علامة استفهام كبيرة ويضعّف جداً احتمال كونها رواية نبويّة.
2- لا وجود لهذه العبارة في الكتب الحديثية للشيعة. وهذا يضع أمامنا علامة استفهام أخرى.
3- إنَّ هذه العبارة موجودة في بعض الكتب الاستدلالية للشيعة دون جميعها.
وهذه هي النقطة الايجابية الوحيدة أمامنا والتي يمكن الانطلاق من خلالها لمعرفة حقيقة هذه العبارة.
ومقتضى التحقيق أن نبحث عن أوّل مصدر ذكر هذه العبارة لعلّنا نجد فيه ما يرشدنا إلى حقيقة الأمر.
وبعد إعادة البحث وجدنا أنّ أول مصدر ذكرها هو كتاب (الوسيلة إلى نيل الفضيلة) للفقيه المعروف ابن حمزة الطوسي المتوفى عام 560هـ. قال (:(والرضاع لحمة كلحمة النسب لقولـه (: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب")(14).
إنَّ هذا النصّ يوضح الحقيقة بشكل لا لبس فيه، ويزيل الشك والاحتمالات المختلفة من نفوسنا. فهذا الفقيه البارع قد اخترع هذه العبارة مقتبساً أكثرها من قولـه (: (الولاء لحمة كلحمة النسب) ثم علّلها بقولـه : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فلو كانت بنفسها عبارة للنبي أو لأحد الأئمة، فما هو معنى تعليلها بقوله (ص)؟!
إذن هذه العبارة مشهور لا أصل لـه. أساسها كتاب (الوسيلة) لابن حمزة (، ثم نقلها بعض من جاء بعده وأرسلوها إرسال المسلّمات ونسبوها تارة للنبي وأخرى للمعصوم ، وما ذلك إلاّ لصحة مضمونها. ودلالة القرآن والسنّة الشريفة عليه.
ثم إنّنا ـ وللأسف ـ لاحظنا أنَّ بعضاً من الذين تعرّضوا لتحقيق بعض الكتب حينما وصلوا إلى هذه العبارة ولم يجدوا لها أثراً في الكتب الحديثية والمصادر المعتبرة اكتفوا بتخريجها من مثل تفسير (الميزان)، أو تفسيري (الصافي) و(الأصفى)، من دون أن يتكلفوا عناء البحث والإشارة إلى عدم ثبوتها كما صنع الشهيد الخميني. وهذا يُعدَّ نقصاً واضحاً في عملية تحقيق التراث لابدّ من تداركه، ووضع الضوابط لتلافيه وأمثاله من النواقص في هذا المجال.
2- من ادرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت
اشتهرت هذه العبارة عند فقهاء الإمامية وأصولييهم على أنّها رواية من روايات المعصومين (. وإليك بعض كلماتهم الدالة على ذلك:
1 ـ قال المحقّق الحلّي ( في (المعتبر): (... والأول هو الحق لقوله (: من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت).
وعلّق محقّقو الكتاب فقالوا بأنّهم لم يعثروا على رواية بهذا اللفظ لا في طرقنا ولا في طرق العامّة وكتبهم، ثم احتملوا أن تكون موجودة عند المحققّ ( فيما بيديه من الأصول الأربعمائة(15).
2 ـ قال العلاّمة (: (... وفي لفظ آخر: من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت).
ونصّ محققو الكتاب على أنّهم لم يعثروا على هذا اللفظ في المصادر الموجودة إلاّ في (المعتبر)، وأنّه يوجد بمعناه في صحيحي البخاري ومسلم(16).
3 ـ وفي (المسالك): (... لعموم قوله (: من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الجميع).
وعلّق محقّق الكتاب فقال: (لم نجد الحديث بهذا اللفظ ويوجد بمعناه)(17).
وذكرها أيضاً في روض الجنان(18).
4 ـ وفي (مستند الشيعة): (... في مقابل الروايات الواردة في أنَّ من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت)(19).
5 ـ وفي (الجواهر): (لإطلاق قولـه (: من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت كلّه)(20).
وخرّجه محقق الكتاب منبّهاً على أنّه بلفظ آخر.
وذكرها أيضاً الشيخ الأنصاري ( في عدّة مواضع من كتبه؛ والسيد اليزدي ( كذلك في عدّة مواضع من عروته؛ وفي تقرير بحث النائيني ( في الصلاة للكاظمي(21)؛ وذكرها أيضاً في (المستمسك)(22)؛ وفي تقريرات السيد الخوئي (؛ وفي (فقه الصادق). وأيضاً في (مصباح الفقيه).
بل عن العلاّمة المامقاني ( قولـه: (... لما استفاض من النقل الصحيح من أنَّ من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت كلّه)(23).
وعن المحقق القمّي ( في (القوانين): (... للنصّ الصحيح المستفيض بأنَّ من أدرك ركعة من الوقت قد أدرك الوقت)(24).
وذكرها أيضاً في (هداية المسترشدين)(25)؛ وفي (فرائد الأصول)(26)؛ وفي (جامع الشتات)(27).
إذن فالعبارة مشهورة على أنّها رواية بشكل لا لبس فيه، بل قد مرّ عليك تصريح بعضهم بأنّها من الصحيح والمستفيض.
هذا ولكنّ بعض علمائنا كان لهم رأي آخر فيها؛ فمنهم من نصّ على كونها مرسلة المحقّق ( في (المعتبر)، كالمحققّ الداماد ( في تقريرات بحثه(28)؛ ومنهم من استظهر كونها رواية من روايات المخالفين، كالمحقّق البحراني في (الحدائق)(29).
أقول:
أمّا احتمال كونها من روايات المخالفين دخلت إلى فقهنا فهو باطل حتماً؛ لأنه لا يوجد لهذه العبارة أثر في صحاحهم ومسانيدهم، بل الموجود فيها هو مثل: من أدرك ركعة من صلاة الجمعة...، أو: من أدرك ركعة من صلاة الفجر...، أو: من أدرك ركعة من صلاة العصر...، أو: من أدرك ركعة من الصلاة... .
وسوف يتبيّن لك أنَّ هذه المضامين خصوصاً الأول والثاني يتّفق مع ما هو موجود في مصادرنا الروائية عن أهل البيت (.
وأمّا كونها مرسلة (المعتبر) فهو ما يتوافق مع ما أثبته البحث والتحقيق؛ حيث إنّا لم نجد ـ ولم يذكر أحدٌ أيضاً بأنّه وجد ـ مصدراً ذكر هذه العبارة أقدم من (المعتبر). ونحن نرجّح كون هذه العبارة قد سبقت اشتباهاً إلى قلم المحقق (؛ ويمكن تأييد ذلك بعدّة أمور:
الأول: إنّه ( ذكر في (الشرائع) الرواية مرّة واحدة بعبارة: (من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر)(30)؛ وأيضاً ذكرها في نفس (المعتبر) ثماني مرّات، وبأشكال مختلفة، كلها واردة من طرقنا أو من طرق العامّة، إلاّ الشكل الذي هو محلّ البحث.
الثاني: إنَّ ملاحظة الكلام الذي ساق فيه المحقق ( هذه العبارة تعدُّ قرينة أخرى على اشتباه هذه العبارة بالرواية المعروفة المرويّة من طرق العامّة: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)، حيث إنّه ( كان بصدد الاستدلال على ما ذكره الشيخ الطوسي ( في (المبسوط)(31) من أنَّ من يدرك ركعة فما زاد من الصلاة آخر الوقت يكون مؤدّياً لجميعها، ولا يجب عليه القضاء، خلافاً لبعض الأصحاب. فبما أنَّ موضوع الكلام هو الصلاة آخر الوقت اشتبه ( في نقله لتلك الرواية، فأبدل كلمة "الصلاة" بكلمة "الوقت".
ويقوّي هذا البيان للاشتباه أنَّ نفس هذه العبارة قد نقلها العلماء المتأخّرون عن المحقّق مع بعض التغيير، ممّا يعني أنّهم كانوا يلاحظون المعنى، وينقلون عمّا في بالهم من دون الرجوع إلى أصل مكتوب. لاحظ كيف أبدل الشهيد الثاني كلمة "الوقت" الثانية بكلمة "الجميع"، وكيف زاد في (الجواهر) كلمة "كلّه".
الثالث: إنّه لم يعرف عن المحقق ( كونه من أهل التدقيق في نقل الأحاديث كصاحب المدارك مثلاً، خصوصاً أنَّ هذه العبارة قد اختصّ ( بنقلها ولا أثر لها قبله في أيّ من كتب السنة والشيعة، خصوصاً المحدّثين منهم، أمثال الشيخ الطوسي ( الذي ذكرنا لك أنَّ المحقق ( كان ناظراً هنا إلى عبارته في (المبسوط).
الرابع: إنَّ صياغة العبارة بهذا الشكل قد يكون فيها إشكال أدبي حاصله أنَّ المعنى المفروض للعبارة يتوقّف على أن تكون "من" في قوله: (ركعة من الوقت) بمعنى "في"، أي: ركعة في الوقت؛ لأنَّ الوقت ظرفٌ لإيقاع الركعة. فكان يجدر بقائل هذه العبارة أن يقول: (ركعة في الوقت)؛ لأنَّ مجيء "من" بمعنى "في" قد يكون نادراً، وهو على خلاف الغالب الشائع في استعمالاتها.
وما مثّل به في (مغني الأديب) لمجيئها بمعنى "في" من قوله تعالى: ?أرُونِي مَاذا خَلَقُوا مِنَ الأرضِ? فاطر 40 وقولـه تعالى: ?إِذَا نُـودِي لِلصـَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ? (الجمعة: 9) ليس دليلاً على مجيئها بمعنى "في"؛ لأنّه بالتأمّل يظهر إمكان أن تكون في الأولى تبعيضية أو بيانية للجنس، وأن تكون في الثانية تبعيضية أو مزيدة.
وهذا يؤيّد وقوع المحقّق ( في الاشتباه بين هذه العبارة وقوله (: (من أدرك ركعة من الصلاة...)، حيث إنَّ "من" هنا تبعيضية كما هو واضح. وكأنّه ( كان يريد حكاية الرواية بالمعنى فلم تسعفه العبارة كما أسلفنا.
نعم، المعنى الذي تشير إليه هذه العبارة مذكور في كثير من الروايات المرويّة، بطرق العامّة والخاصة، ولعلّه لذلك ذكر العلاّمة المامقاني والمحقق القمّي (قدهما) أنَّ قولـه: (من أدرك ركعة من الوقت...) نصّ صحيح مستفيض. فكأنَّ نظرهما في ذلك إلى المضمون لاخصوص اللفظ.
وكتتمة للبحث نشير إلى سائر العبارات الحاكية لهذا المضمون من طرقنا:
1 ـ محمد بن مكي الشهيد ( في (الذكرى) قال: روي عن النبي ( أنّه قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.
2 ـ وعنه أيضاً قال: وعنه (: من أدرك ركعة من العصر قبل أن يغرب الشمس فقد أدرك العصر(32).
وهذان التعبيران أخذهما ( من طرق العامّة، حيث لا يوجدان من طرقنا ويوجدان بنصّهما الحرفي في كتبهم، مثل مسند الشافعي وغيره(33).
3 ـ ما رواه الشيخ في (التهذيب) و (الاستبصار) عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (: من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة(34).
4 ـ ما رواه الشيخ أيضاً في الكتابين عن عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (: ... فإن صلّى ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتمّ وقد جازت صلاته(35).
5 ـ ما رواه في الكتابين أيضاً عن أبي عبدالله (: إذا أدرك الرجل ركعة فقد أدرك الجمعة...(36) . ورواه أيضاً الصدوق ( في (الفقيه)(37).
إذن المضمون الوحيد المروي من طرقنا الذي يتعرّض إلى مسألة إدراك ركعة داخل الوقت هو إدراك ركعة من صلاة الغداة (أي الصبح)، وأمّا إدراك ركعة من الجمعة فهو مضمون آخر يتحدث عن إدراك الجمعة وإلاّ فيصلّي الظهر.
وبهذا يظهر متانة ما ذكره في (الحدائق) من قصر العمل بقاعدة "من أدرك" على خصوص صلاة الصبح(38).
إذن هذه العبارة مشهور لا أصل له، مضمونها وارد بطرقنا وطرق العامّة، على خلاف في خصوصه وعمومه بيننا وبينهم، وإن عمل الأعلام بعمومه. أساسها كتاب (المعتبر)، ونقلها الأعلام بعده عنه، وأحياناً مع بعض التغيير، ولم يذكر أحدٌ مصدراً روائياً لها أبداً.
ومعه لا داعي لإتعاب النفس في تفسير مضمونها، ومعنى إدراك الوقت، وما شاكل، ويشكل الاعتماد عليها بخصوصها لعدم ثبوت حجيّتها.
3 ـ أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنّي من قريش
إنَّ مشهورية هذه العبارة أشهر من نار على علم كما يقولون، ولذا نجد بعض الأعلام قد اعتمدوا عليها وكأنّها حجّة لا مجال للخدش فيها، منهم:
1- صاحب الجواهر ( حيث قال: (... النبي ( القائل: إنّي أفصح من نطق بالضاد)(39).
2- السيد نعمة الله الجزائري ( في (نور البراهين): (... فيكون من باب قولـه (: أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنّي من قريش واسترضعت في بني سعد)(40).
3- المولى محمد صالح المازندراني ( في (شرح أصول الكافي): (وقال رسول الله (: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أفصح من نطق بالضاد)(41).
واكثر ما ذكرت هذه العبارة في كتب اللغة كدليل على أفصحية النبي ( أو كشاهد على الاستثناء بـ (بيد)؛ فقد ذكرها في (القاموس المحيط)(42)، وفي (تاج العروس)(43)، وفي (مغني اللبيب)(44), كلهم ذكروها بعنوان كونها من كلام النبي (.
ولكنها وللأسف لم تذكر في أي كتاب روائي، لا من طرق الشيعة ولا من طرق السنّة، بل قد نصّ كثيرٌ من الحفّاظ والمحققين على أنّه لا أصل لها، وإليك بعض عبائرهم في ذلك:
ـ قال ابن كثير الدمشقي في تفسيره: (وأمّا حديث: "أنا أفصح من نطق بالضاد" فلا أصل له والله أعلم)(45).
ـ وقال اسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة (1162هـ.ق) في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس): ("أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش" قال في (اللآلئ): معناه صحيح ولكن لا أصل له، كما قال ابن كثير وغيره من الحفّاظ، وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد...)(46).
ـ وقال محمد بن يوسف الصالحي الشامي المتوفي سنة (942هـ.ق) في كتابه (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد): (تنبيهات، الأول: ما اشتهر على ألسنة كثير من الناس أنه ( قال: "أنا أفصح من نطق بالضاد" فقال الحافظ عماد الدين ابن كثير ـ وتابعه تلميذه الزركشي ـ وابن الجوزي والشيخ والسخاوي: إنّه لا أصل له ومعناه صحيح...)(47).
ـ ونقل الشيخ الأحمدي الميانجي ( في كتابه (مكاتيب الرسول) في بعض هوامشه عن الطبراني قولـه: (وأما حديث أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنّي من قريش، فنقله الحلبي عن ابن هشام، لكن لا أصل له كما صرّح به جماعة من الحفّاظ)(48).
إذن هذه العبارة مشهورّ لا أصل له.
4 ـ من بدّل دينه فاقتلوه
تدور على هذه العبارة المشهورة وغيرها رحى الاستدلال على وجوب قتل المرتدّ حيناً، وعدم استتابته حيناً آخر، وهي جزءٌ من رواية منسوبة إلى النبي ( مروية بطرق السنّة عن ابن عباس في مضمونٍ سوف يأتي لنا كلام فيه.
وقد دخلت إلى تراثنا الفقهي عبر الشيخ الطوسي ( في كتابيه (الخلاف)(49) و(المبسوط)(50) ثم ذكرها بعده السيد ابن زهرة الحلبي ( في (غنية النـزوع)(51)، وهكذا علي بن محمد القمي ( في (جامع الخلاف والوفاق)(52)، وبعدهم ذكرها العلاّمة ( في كتبه (المختلف)(53) و(المنتهى)(54) و(التذكرة)(55)، ثم ابنه الفخر ( في (الإيضاح)(56).
والأعلام الذين جاؤوا بعد الشيخ ممّن ذكرناهم إمّا كانوا ينقلون بعض عبائر الشيخ المتضمنة لهذه العبارة، وإمّا كانوا يشيرون إلى أنّها من روايات المخالفين فيحتج بها عليهم كما صنع ابن زهرة ( في (الغنية)(57)، وبعضهم كان يستدلّ بها.
ولكنها بعد ذلك أخذت منحى آخر، حيث صارت تذكر كدليل في المسألة؛ لاحظ مثلاً عبارة الشهيد ( في (الدروس): (وأمّا أحكام المرتد... فالأول وجوب القتل إن كان رجلاً مولوداً على فطرة الإسلام، لقول رسول الله (: "من بدّل دينه فاقتلوه")(58).
وقد استدل بها أيضاً المحقق الثاني ( في (جامع المقاصد)(59)، والشهيد الثاني ( في (الروضة)(60) و(المسالك)(61)، وكذلك استدل بها في (الجواهر)(62)، وذكرها في (مجمع الفائدة والبرهان)(63)، وفي (كشف اللثام)(64)، وفي (الحدائق الناضرة)(65)، وأيضاً الشيخ الأنصاري ( في كتاب (النكاح)(66).
ولأجل بيان حال هذه العبارة ينبغي الكلام في نقطتين:
الأولى: في صحة مضمونها.
الثانية: في مصادرها والسياق الذي جاءت فيه.
النقطة الأولى: لا خلاف بين الفقهاء في وجوب قتل المرتد بقسميه، الفطري والملّي، أمّا الأول فمباشرة وأمّا الثاني فبعد الاستتابة ثلاثة أيام على خلافٍ قد يذكر من بعضهم في وجوبها أو استحبابها(67).
ولعلّ عمدة أدلّة هذا الحكم عند السنّة هو هذه العبارة، وهكذا عند علمائنا مضافاً إلى روايات كثيرة خاصة من طرقنا تفيد هذا المعنى، منها:
1- ما رواه محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر ( عن المرتدّ، فقال: من رغب عن الإسلام وكفر بما أنـزل على محمد ( بعد إسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله)(68).
2- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن ( قال: سألته عن مسلم تنصّر، قال: يقتل ولا يستتاب. قلت: فنصراني أسلم ثم ارتدّ، قال: يستتاب فإن رجع وإلاّ قتل)(69).
وهناك الكثير غير هاتين الروايتين ممّا هو موجود في الكتب المعتبرة(70).
إذن إنّما رجع علماؤنا (قدّست أسرارهم) إلى هذه العبارة لموافقة مضمونها لمضمون الكثير من رواياتنا المعتبرة، تماماً كما هو الحال في أول عبارتين ذكرناهما.
النقطة الثانية:
أول مصدر حديثي ذكر هذه العبارة هو (المسند) للشافعي المتوفى سنة 204هـ.ق في كتاب الأسارى والغلول وغيره، قال:
أخبرنا ابن عيينة عن أيوب بن أبي قميمة عن عكرمة قال: لمّا بلغ ابن عباس أنَّ علياً ( حرق المرتدين أو الزنادقة قال: لو كنت أنا لم أحرقهم ولقتلتهم لقول رسول الله (: (من بدّل دينه فاقتلوه) ولم أحرقهم لقول رسول الله (: (لا ينبغي لأحدٍ أن يعذّب بعذاب الله)(71).
وهي مروية أيضاً في جميع المصادر الحديثية للعامّة تقريباً، في الصحاح والمسانيد والشروح وغيرها.
وفي بعض المصادر ذكرت تتمة لما سبق هي أنَّ ذلك بلغ عليّاً ( فقال: ويح ابن أم ابن عباس(72)، أو قال: صدق ابن عباس(73)، أو قال: ويح ابن أم الفضل إنّه لغّواص على الهنات(74).
والرواية بكل ألسنتها إدانة واضحة لأمير المؤمنين (؛ حيث إنّه بحسب هذا المضمون يكون ( قد ارتكب حراماً، باعتبار مخالفته للحكم الشرعي المنصوص عن النبي (، المشهور في قضيّة هبار بن الأسود الذي روّع زينب بنت رسول الله ( حين هجرتها إلى المدينة حتى أسقطت، فأمر الرسول ( سراياه وقال: إن وجدتم هبار بن الاسود فاجعلوه بين حزمتي حطب وأحرقوه بالنار، ثم بعث إليهم فقال: لا تعذّبوا بالنار، لا يعذّب بالنار إلاّ ربّ النار(75).
فحرمة الإحراق إذن واضحة لدى عامّة المسلمين، فكيف يُعذر في ذلك أمير المؤمنين (، الذي كان أخا رسول الله ( وصهره وجليسه وملازمه في الليل والنهار، والذي كان أعلم صحابة النبي ( وأقضاهم، والذي قد علّمه النبي ( ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف ألف باب. إلى غير ذلك من مناقب وفضائل لم يشاركه فيها أحدٌ من المسلمين ممّا اتفق عليه الجميع؟!
فهل يعقل مع كل ذلك أنّه ( لم يكن يعرف حكم قضيّة مهمّة كهذه، ولذا لام ابن عباس على كشفه لهذه الهنات والعيوب؟!!
حاشاه ( من كل ذلك.
وحقيقٌ أن لا نمرّ على هذه الرواية التي تفوح منها رائحة الوضع الأموي ـ وإن طالت السنون ـ مرور الكرام.
وهي لم ترد في مصادر أهل البيت الحديثية المعتمدة أبداً، وإنّما وردت في صحاح الجماعة ومسانيدهم وقد اعتنوا بنقلها بشكل ملفت.
والملفت فيها أنَّ القسم الأعظم من أسانيدها ينتهي إلى عكرمة إلى ابن عباس، وعكرمة وما أدراك ما عكرمة؟ فيه من الحديث والقيل والقال ما سطّرت به الصفحات الطوال في الكتب المختصّة ببيان أحوال الرجال عند العامّة.
وقد نسب إليه الكذب غير واحد منهم، وأنّه كان من الخوارج، أو من الخوارج الصفرية، أو كان أباضياً؛ وعن بعضهم أنّه كان يرى رأي نجدة الحروري(76).
وقال في حقّه الذهبي:
(عكرمة، مولى ابن عباس، أحد أوعية العلم. تُكلّم فيه لرأيه لا لحفظه فاتهم برأي الخوارج. وقد وثّقه جماعة، واعتمده البخاري، وأمّا مسلم فتجنّبه، وروى له قليلاً مقروناً بغيره، وأعرض عنه مالك وتحايده إلاّ في حديث أو حديثين)(77).
وعلى أي حال فإنَّ هذه الرواية معارضة بروايات أخرى من طرقنا وطرق العامّة توضح قضية الإحراق وخصوصياتها بشكل ينتفي فيه الإشكال عن أمير المؤمنين (.
أمّا من طرق العامّة فقد روى الحميدي عبدالله بن الزبير المتوفى سنة 219هـ في مسند الحميدي فقال: (حدّثنا سفيان قال: حدّثنا أيوب عن عكرمة قال: لمّا بلغ ابن عباس أنَّ عليّاً أحرق المرتدّين ـ يعني الزنادقة ـ قال ابن عباس: لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله (: من بدّل دينه فاقتلوه، ولم أحرقهم لقول رسول الله (: لا ينبغي لأحدٍ أن يعذّب بعذاب الله، قال سفيان فقال عمّار الدهني وهو في المجلس ـ مجلس عمر بن دينار ـ وأيوب يحدّث بهذا الحديث: إنَّ عليّاً لم يحرقهم، إنّما حفر لهم أسراباً وكان يدخّن عليهم منها حتى قتلهم. فقال عمر بن دينار: أما سمعت قائلهم وهو يقول:
لتـربي المنايا حيث شاءت***إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما قرّبوا حطباً وناراً*** هناك الموت نقداً غير دين)(78)
وروى ذلك البيهقي أيضاً في سننه مع اختلاف بسيط(79).
وأمّا من طرقنا فقد روى الكليني ( عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله ( قال: (أتى قومٌ أمير المؤمنين ( فقالوا: السلام عليك يا ربّنا، فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها وأفضى ما بينهما فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأخرى حتى ماتوا)(80).
وروى أيضاً عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل عن كردين، عن رجل، عن أبي عبدالله، وأبي جعفر ( قال: إنَّ أمير المؤمنين ( لما فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط فسلّموا عليه وكلّموه بلسانهم فردّ عليهم بلسانهم، ثم قال لهم: إنّي لست كما قلتم، أنا عبدالله مخلوق، فأبوا عليه وقالوا: أنت هو، فقال لهم: لئن لم تنتهوا وترجعوا عمّا قلتم فيَّ وتتوبوا إلى الله عزّ وجلّ لأقتلنكم، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا، فأمر أن تحفر لهم آبار فحفرت ثم خرق بعضها إلى بعض، ثم قذفهم فيها ثم خمّر رؤوسها ثمّ أُلهبت النار في بئر منها ليس فيها أحدٌ منهم فدخل الدخان عليهم فماتوا)(81).
إنَّ هذه الروايات المشتملة على الوصف الدقيق لهي خير جواب على رواية عكرمة المنسوبة إلى ابن عباس.
هذا وقد صرّح بعض الباحثين بأنَّ صحة هذه الواقعة كانت دائماً مورداً للشك(82).
وهناك موارد أخرى نسب فيها فعل الإحراق إلى أمير المؤمنين ( تعرّض لها العلاّمة المحقّق السيد مرتضى العسكري (دام ظله) في كتابه (عبدالله بن سبأ)، وناقش في هذه النسبة إلى علي ( بمناقشات قيّمة خلص فيها إلى وضع هذه الرواية بهدف جعل حرق أبي بكر للفجاءة السلمي في قصته المعروفة أثناء حروب الردة، وكذا حرق خالد بن الوليد لبعض مانعي الزكاة عملاً عادياً لا يمكن للمنكرين عليهما وخصوصاً الشيعة أن يأخذوه مستمسكاً على الجماعة طالما أنَّ عليّاً ( قد فعله(83).
والخلاصة أنّه لا يمكن الاعتماد والركون إلى هذه الرواية لأمور:
الأول: عدم إمكان قبول ذلك في حق علي (، لعصمته بحسب ما نعتقده، أو لا أقل لعلمه الوافر الذي لا يدانيه فيه أحدٌ من الصحابة.
الثاني: عدم صحة سند هذه الرواية كما مرّ.
الثالث: عدم روايتها في مصادرنا المعتبرة واختصاص مصادر العامّة بنقلها.
الرابع: معارضة الرواية بروايات مفصلّة وبعضها معتبر السند من طرقنا وطرق العامّة تبيّن حقيقة تلك الواقعة وأنّه ( لم يحرقهم وإنّما دخّن عليهم فماتوا خنقاً مثلاً.
الخامس: توفّر القرائن سواء ممّا ذكر في ترجمة عكرمة وأنّه كان من الخوارج أو ممّا ذكر من فعل الإحراق على يد أبي بكر وخالد على وضع الرواية لأغراض تتوافق مع تلك الحوادث.
وبعد كل هذا ألا يحق لنا أن نقول: إذن، عبارة "من بدّل دينه فاقتلوه" مشهورٌ مضمونه صحيح ولكن لا أصل له؟!
لا أظن أنَّ الباحث المنصف ينكر علينا هذه المقالة.
5 ـ أسألك بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها
هذا الدعاء ممّا اشتهر على ألسنة محبي أهل البيت ( إلى درجة أنّ بعض العلماء جعله في بعض محاضراته دليلاً على محورية السيدة الزهراء ( في عالم الوجود، وأجاب حينما سئل عن مقام الزهراء ( بالنسبة إلى مقامات النبي والأئمة ( بأنّها ـ سلام الله عليها ـ هي المحور كما يدل عليه الدعاء المذكور.
وقد عقد له بعض الكتّاب بحثاً في تمهيد كتابه تعهّد فيه بالإجابة عن سنده قبل الدخول في بيان وشرح مضامينه تبعاً لمقولة: العرش ثم النقش.
ولكنّي لم أجد منه سوى النقش.
وقد صرّح هو نفسه بأنّه لم يرَ له سنداً في أي كتاب من الكتب المتداولة، ولم يروَ عن أي معصوم من أهل بيت العصمة، وإنّما وجده في كتاب (فاطمة بهجة قلب المصطفى) نقله مؤلِّفه الشيخ الهمداني عن شيخه المرحوم ملاّ علي المعصومي حيث سمعه يتوسّل إلى الله سبحانه به.
وأيضاً وجده ضمن وصايا آية الله المرعشي ( إلى أبنائه وأنَّ هذا الدعاء كان من جملة الوصايا المهمّة التي أعطاها الإمام المهدي (عج) للسيد المرعشي في إحدى تشرفاته بلقاء الإمام(عج).
ثم نبّه إلى أنّ مضمون هذا الدعاء مطابقٌ للكثير من الروايات الشريفة المأثورة في حقّ الصديقة الكبرى فاطمة (، وأنّه وإن لم يذكر في كتب الحديث وكتب الأدعية إلاّ أنَّ الأمر فيه سهل بعد ذكره في الكتابين المذكورين والرجوع إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن(84).
وهذا منه عجيب؛ حيث إنَّ هذه القاعدة لا دخل لها بتصحيح السند، بل إنّها على فرض ثبوتها تقول: المضمون الذي يصلك في رواية وكان فيه ثواب على عمل، إن عملت به كان لك مثل الأجر المذكور في تلك الرواية.
فهي إذن تجري بعد الفراغ عن وجود رواية، بينما في المقام نحن نبحث عن كون هذه رواية أو لا.
ورغم ذلك إلاّ أنّه رتّب عليه الكثير من الأمور واستفاد منه الكثير من المطالب التي لا سبيل إلى إثبات بعضها عن طريق غيره.
وقد ذكر هذا الدعاء الشيخ جواد القيومي الإصفهاني في كتابه (صحيفة الزهراء) ولم يذكر له سنداً(85) رغم أنَّ له باعاً في التحقيق والأحاديث.
وهكذا أيضاً نجد سماحة الشيخ علي الكوراني العاملي لا يذكر له مصدراً، رغم تصريحه في مقدمة كتاب (الحق المبين في معرفة المعصومين)(86) بأنّه سوف يستخرج مصادر أحاديث ونصوص المحاضرات التي يتألف منها الكتاب(87)، فيُفهم من ذلك عدم ركونه إلى كونه دعاءً وارداً من طرق المعصومين (.
وقد قمت أيضاً ببحث كمبيوتري واسع عنه فلم أجد شيئاً.
وعلى هذا يصحّ أن نقول: إنّه مشهورٌ لا أصل له.
6 ـ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق
اشتهرت هذه العبارة على الألسن وخصوصاً بين أهل المعنى ـ كما يطلق عليهم ـ وأكثر ما تتداول على ألسنة الصوفية، حتى ظنّها الناس حديثاً قدسياً لا غبار عليه، فتراهم يستشهدون بها كلّما أرادوا الاحتجاج على صحة طريقة معيّنة أو شكل معيّن للتقرّب إلى الله عزّ وجلّ. وقد وصلت شهرتها إلى درجة نسبها بعض العلماء إلى النبي ( بعنوان كونها حديثاً مأثوراً عنه ((88).
ولكنها ليست حديثاً؛ حيث لم نجد لها أثراً في أيّ كتاب روائي لدى المسلمين أمكننا البحث عنه في الموسوعات الكمبيوترية.
وقد صرّح بعدم العثور على مستند روائي لها بعض الأفاضل أيضاً(89).
بل قد صرّح في شرح إحقاق الحق بوضع هذا الحديث وافترائه واستفادة الصوفية منه في مآربهم الفاسدة(90).
إذن هو مشهورٌ لا أصل له.
7 ـ كنت كنـزاً مخفيّاً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأن أعرف
تكاد تكون هذه العبارة أشهر ما مرّ علينا من عبارات تتناقل بين الخاصة والعامّة، وعلى الألسن وفي الكتب، بعنوان كونها حديثاً قدسياً؛ فقد ذكرها بهذا العنوان المحقق الكركي ( في رسائله(91)، والمولى محمد صالح المازندراني ( في شرحه على أصول الكافي(92)، وابن أبي جمهور الأحسائي ( في (عوالي اللآلي)(93)، والملاّ هادي السبزواري ( في (شرح الأسماء الحسنى)(94)، والسيد الشهيد مصطفى الخميني ( في تفسيره(95)، وكثيرٌ غيرهم من العلماء.
بل قد صنّفت في شرحه الكتب(96)، واستفيدت منه المطالب، ورتّبت عليه الأمور الكثيرة.
وقد أطلق والد العلاّمة المجلسي ( على ما نقله عنه ولده في (البحار) كونها من كلام الله تعالى، وكأنّها مسلّم من المسلّمات(97)، وأرسلها نفس العلاّمة ( في مورد آخر بعنوان كونها رواية من دون أن يذكر أيّ مصدر لها(98). ومع ذلك نجد بعض العاملين في مجال تحقيق الكتب يخرّجون هذا الحديث من (البحار)!!(99).
ولكنها ليست حديثاً، حيث لم تذكر في أيّ مصدر روائي معتبر بهذا العنوان وقد نصّ غير واحد على عدم كونها حديثاً.
قال السيد المرعشي ( في شرح (إحقاق الحق) بعد نقله ما نقله العجلوني عن ابن تيمية والزركشي والحافظ ابن حجر والسيوطي وغيرهم من إنكارهم كونها من كلام النبي ( وأنّه لا يعرف لها سند لا ضعيف ولا صحيح: (وكذا يظهر من بعض الأصحاب، وبعد ذلك فمن العجب أنّه شرح هذه الجملة بعض العلماء زعماً منه أنّه خبر مرويّ وحديث مأثور عنه (. وعليك بالتثبت والتحرّي)(100).
بل قد نقل عن الفيض الكاشاني ( التصريح بأنَّ هذه العبارة من موضوعات الصوفية(101).
ولنعِم ما قال آية الله محمد آصف المحسني (دام ظلّه) من أنَّه لابدّ للمحقق من البحث والفحص حول أسانيد جميع الأخبار لا سيّما الأحاديث القدسية المنسوبة إلى الله سبحانه؛ فإنَّ الكذّابين والملحدين يحبون أن ينسبوا مفترياتهم إلى الله تعالى أكثر من أن ينسبوها إلى رسول الله أو من يقوم مقامه ((102).
إذن هذه العبارة مشهورٌ لا أصل له.
هذه جملة من المشهورات التي أثبت لنا التحقيق عدم وجود أصل لها فيما بين أيدينا من مصادر، نعرضها بين أيدي أهل العلم، راجين منهم تقويمنا إن كُنَّا قد اشتبهنا، ولهم الشكر مسبقاً.________________________________________
(1) الجواهر 29: 310؛ 41/313.
(2)مستند الشيعة 16: 226 و273.
(3)الحدائق الناضرة 23: 442.
(4)كفاية الأحكام: 164.
(5)مسالك الأفهام 3: 376؛ 7/299 و312.
(6)جامع المقاصد 4: 129؛ 12/241 و243 و286 و360.
(7)المهذّب البارع 3: 236.
(8)الميزان في تفسير القرآن 4: 283.
(9)التفسير الصافي 1: 435؛ التفسير الأصفى 1: 202..
(10)الجواهر 29: 310.
(11)المهذّب البارع 3: 236.
(12)شرح أصول الكافي 9: 178.
(13)مستند تحرير الوسيلة 2: 386، نشر آثار امام خميني (.
(14)الوسيلة: 302، نشر مكتبة المرعشي.
(15)المعتبر 2: 47، نشر مؤسسة سيد الشهداء 1364هـ.ش.
(16)منتهى المطلب 4: 109، نشر مجمع البحوث الإسلامية ـ إيران مشهد.
(17)مسالك الأفهام 1: 146، نشر مؤسسة المعارف الإسلامية.
(18)روض الجنان: 304.
(19)مستند الشيعة 4: 18.
(20)جواهر الكلام 7: 94.
(21)كتاب الصلاة (1) تقرير بحث النائيني الكاظمي: 46.
(22)المستمسك 7: 24.
(23)دراسات في علم الدراية للعلاّمة المامقاني ـ تحقيق وتلخيص علي أكبر الغفاري: ص193.
(24)قوانين الأصول: 117.
(25)هداية المسترشدين: 256.
(26)فوائد الأصول 1: 328.
(27)جامع الشتات 1: 151.
(28)تقرير بحث الداماد (كتاب الصلاة) للمؤمن: 61.
(29)الحدائق الناضرة 10: 142.
(30)شرائع الإسلام 1: 49، تحقيق السيد صادق الشيرازي.
(31)المبسوط 1: 72.
(32)الوسائل 4 (طبعة آل البيت): 218 ـ أبواب أعداد الفرائض ـ الباب 30 ـ ح4 و5.
(33)مسند الشافعي ص27 و69 بروايته عن أبي هريرة، نشر دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(34)التهذيب 2: 38 ح119/70؛ الاستبصار 1: 275 ح999/10.
(35)التهذيب 2: 38 ح120/71؛ الاستبصار 1: 276 ح1000/11.
(36)التهذيب 3: 243 ح657/39.
(37)الفقيه 1: 270/1232.
(38)الحدائق الناضرة 6: 276.
(39)الجواهر 9: 399.
(40)نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين 1: 120.
(41)شرح أصول الكافي للمازندراني 9: 332.
(42)القاموس المحيط 1: 6.
(43)تاج العروس 1: 8.
(44)مغني اللبيب 1: 114.
(45)تفسير ابن كثير 1: 32.
(46)كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1: 200 ـ 201.
(47)سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 2: 103.
(48)مكاتيب الرسول 1: 81.
(49)الخلاف 5: ص354 ـ 357 ـ 552.
(50)المبسوط ج2: ص36 و57؛ ج7: ص281 و284؛ ج8: ص71.
(51)غنيّة النـزوع: 380.
(52)جامع الخلاف والوفاق: 449.
(53)مختلف الشيعة، طبعة جماعة لمدرسين 4: 446.
(54)المنتهى (الطبع القديم) 2: 979 (كتاب الجهاد).
(55)التذكرة 9: 278 ـ 374.
(56)إيضاح الفوائد 1: 395.
(57)غنية النـزوع: 380.
(58)الدروس الشرعية 2: 52.
(59)جامع المقاصد 3: 447 ـ 480.
(60)الروضة البهية 8: 31.
(61)مسالك الأفهام: ج7 ص368؛ ج13 ص34؛ ج15 ص23.
(62)جواهر الكلام 21: 316.
(63)مجمع الفائدة والبرهان 7: 522.
(64)كشف اللثام 7: 218.
(65)الحدائق الناضرة 24: 38.
(66)كتاب النكاح (الأنصاري): 400.
(67)راجع (المجموع) للنووي ج19 ص229.
(68)الوسائل 28: 323، أبواب حدّ المرتد، الباب 1، ح2.
(69)المصدر السابق: ح5.
(70)جمعها في (الوسائل) في أبواب حَدّ المرتد في الجزء 28، كتاب المحدود.
(71)المسند (للشافعي): 320.
(72)مسند أحمد 1: 217.
(73)سنن الترمذي 3: 10.
(74)السنن الكبرى (للبيهقي) 8: 202؛ وكذلك البداية والنهاية 8: 330.
(75)الأم (للشافعي) 4: 259؛ ناسخ الحديث ومنسوخه (لعمر بن شاهين متوفي سنة 385) ص415؛ نيل الأوطار (للشوكاني) 8: 75؛ فتح الباري (لابن حجر) ج6 ص105.
(76)راجع: تهذيب الكمال (للمزي) ج20 ص278 إلى 280.
(77)ميزان الاعتدال (للذهبي) ج3 ص93.
(78)مسند الحميدي (عبدالله بن الزبير الحميدي) ج1 ص244 ـ 245.
(79)السنن الكبرى (للبيهقي) ج9 ص71.
(80)الكافي 7: 258، ح18 من باب حدّ المرتد.
(81)المصدر السابق: ح23.
(82)تطوّر المباني الفكرية للتشيّع في القرون الثلاثة الأولى (تأليف الدكتور حسين المدرّسي الطباطبائي) ص36.
(83)عبدالله بن سبأ 2: 195 إلى 198.
(84)الأسرار الفاطميّة (تأليف الشيخ فاضل المسعودي): ص25 ـ 26.
(85)صحيفة الزهراء ( (تنظيم وترجمة الشيخ جواد القيومي): ص304.
(86)الحق المبين في معرفة المعصومين: ص247.
(87)المصدر السابق: ص14.
(88)هذه هي الوهابية، للشيخ محمد جواد مغنية، ص20.
(89)مجلة (الحياة الطيبة)، العدد 11، ص197، مقالة للأستاذ الشيخ محمد زراقط بعنوان: سبيل الله الواحد أم سبله المتعددة.
(90)شرح إحقاق الحق 1: 185.
(91)رسائل الكركي 3: ص159 ـ 162.
(92)شرح أصول الكافي (للمولى محمد صالح المازندراني) ج1 ص22 ـ 92.
(93)عوالي اللآلي 1: 55.
(94)شرح الأسماء الحسنى 1: 64.
(95)تفسير القرآن الكريم، للشهيد مصطفى الخميني ج4 ص368؛ ج5 ص198.
(96)راجع، كشف الظنون ج2 ص1040 ـ الذريعة ج13 ص205، ج14 ص24.
(97)بحار الأنوار (الطبعة الثانية، مؤسسة الوفاء ـ بيروت) ج84 ص199.
(98)المصدر السابق: ص344.
(99)كما حصل مثلاً في تحقيق (تفسير القرآن الكريم) للشهيد مصطفى الخميني ( ج4 ص387؛ وتحقيق (مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين) الذي نشرته مؤسسة الأعلمي في بيروت سنة 1419هـ.
(100)إحقاق الحق 1: 431.
(101)مشرعة بحار الأنوار، للعلاّمة الشيخ محمد آصف المحسني ج2 ص113.
(102)نفس المصدر السابق.