خطبة الجمعة 6 جمادى الأولى 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الإسلام وأهل الكتاب ـ 2


ـــ تحدثت في الأسبوع الماضي عن مقطع الفيديو الذي تحدثت فيه السيدة (بريجيت غابرييل) مدعية أنها ستسحق الإسلام في خمس دقائق من خلال إثارة مجموعة من الشبهات التي تناولتُ بعضها.
ـــ ادعت حول مواقف النبي من أهل الكتاب عدة أمور:
الدعوى الأولى: أن اليهود عندما رفضوا دعوة النبي (ص) صار يقتلهم.
ــــ والتاريخ على خلاف ذلك تماماً، فبينما كان بإمكان النبي أن يقتل بني قينقاع ويبيدهم بعد استسلامهم، اكتفى بإجلائهم من المدينة بعد خيانتهم للميثاق القائم بينه وبينهم، وبعد أن رفعوا السيف بوجهه. وهكذا مع بني النضير وبني قريظة، وكلهم انتقلوا الى خيبر وسواها من المدن.
ــــ وعندما وقعت الحرب بينه وبينهم في خيبر نتيجة تآمرهم مع الروم ضد دولة الإسلام، ثم انتصر عليهم وفتح حصونَهم العاتية، عفى عنهم مجدداً، وأبقاهم في خيبر وما سواها... ولم يُفنِهم.
ــــ والموقف القرآني واضح إذ لم يأمر بقتال المسالمين: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
ـــــ كما أنه أمَر المسلمين بالإنصاف، والتزام العدل والتقوى في الخصومات حتى وإن كان الخصم من دين آخر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة:8].
ـــ وكان رسول الله إذا بعث جيوشه قال: (لا تعتدوا، ولا تغُلّوا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع....).
ـــ وأما في العهد القديم (سفر يشوع 6: 21، 24): (وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْف.. وأحْرَقوا المدِينَةَ بالنَّارِ مَع كُلِّ ما بِها).
ـــ وفي العهد الجديد نجد على لسان السيد المسيح (ع): (إنجيل لوقا 19: 27):) أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي) ونحن نبرؤه من ذلك.
الدعوى الثانية: أنه بعد عام من الهجرة حوّل النبي اليهود والنصارى إلى أهل ذمة يدفعون الجزية مقابل حمايتهم، وأنه أذلهم بذلك. وهذا الكلام غير دقيق لعدة لحاظات:
1ـ حكم الجزية الخاص بأهل الكتاب في القرآن نزل في السنة التاسعة للهجرة في سورة التوبة.
2ـ لو كانت الغاية من فرضها إذلالهم لتم ذلك قبل سنوات في أوج الصراع الذي كان قائماً آنذاك.
3ـ الجزية كالضريبة التي يدفعها المسلمون باعتبارهم من المواطنين، لهم حقوق وعليهم واجبات.
4ـ عنوان (أهل الذمة) ليس سلبياً، بل هو إيجابي حيث يتضمن الإقرار بوجود ميثاق شرف بين الطرفين، كما أن عنوان (أهل الكتاب) إيجابي حيث يتضمن الاعتراف بالرسالات السماوية.
الدعوى الثالثة: أن النصارى ما كان بإمكانهم قرع أجراس كنائسهم وهو ما يعارض الحرية الدينية.
ــــــ كفل النبي لأهل الكتاب الحرية الدينية ومما يدل على ذلك ما جاء مثلاً في نص المعاهدة بينه وبين يهود المدينة: (وإنَّ يهـود بني عـوف أمّة مع المؤمنين، لليهـود دينُهم، وللمسلمين دينُهم، مواليهم وأنفسِهم...).
ــــ وكتب لنصارى نجران ضمن المعاهدة: (ولنجرانَ وحاشيتِهم جوارُ الله، وذمةُ محمدٍ النبيِّ رسولِ الله، على أنفسهم، وملتِهم، وأرضِهم، وأموالِهم، وغائبِهم، وشاهدِهم، وبِيَعِهم، وصلواتِهم).
ــــ ولنتذكر أن وفد نصارى نجران دقوا أجراسهم داخل المسجد النبوي، ولم يمنعهم النبي، كما وسمح لهم بالصلاة فيه، وهذا هو المعيار الشرعي لموقف الإسلام. ولو صدرت مواقف مخالفة من بعض الحكام المسلمين فهي لن تعبر عن موقف النبي والإسلام.
ــــ ثم عرّجت السيدة (بريجيت) على الحديث حول ما أسمته الأوضاع السلبية للنصارى في العهد الإسلامي، وشحنت حديثها بالكثير من المغالطات التي تتلخص في تقديم صورة عن التهميش والإلغاء لمواطنيتهم ولأبسط حقوقهم.
ـــ ويكفي أن نتذكر عدد الوزراء والمسؤولين والمستشارين والعلماء والأطباء النصارى واليهود الذين عاشوا في الدول الإسلامية المختلفة عبر القرون وساهموا في حضارتها.
ــــ كما أن ليس من الإنصاف أن نحمّل المسلمين اليوم وزر أخطاء وقع فيها آخرون سبقوهم.
ـــــ إننا في الوقت الذي نبرّيء فيه كلَّ الرسالات السماوية من الجرائم بحق الإنسانية، فإننا نقول بكل وضوح أن الغرب الذي تتغنى (السيدة غابرييل) بحضارته، كان يضطهد ويقتل ويحرق ويبيد ويشرّد اليهود والمسلمين وأتباعَ المذاهب المسيحية المتهمين بالهرطقة والابتداع لمخالفتهم المذهبَ الرسميَّ للدولة، وبصورٍ تفوق الخيال من حيث البشاعة... وما محاكم التفتيش في أسبانيا التي قامت بقتل 32 ألف مسيحي (مهرطق) حرقاً، بالإضافة إلى 300 ألف حوكموا وأجبروا على تغيير مذهبهم، سوى نموذج من تلك النماذج الإجرامية. ثم لنستذكر جرائم الإبادة التي تمت على يد الأوروبيين المسيحيين وبحق عشرات الملايين من السكان الأصليين لما يسمى بالعالم الجديد، في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، وفي أستراليا، وقد تفننوا في ارتكاب تلك الجرائم من خلال نشر الأوبئة، وخيانة مواثيق الأمان، وجوائز المطاردة، وغيرها. وأخيراً لنتساءل: هل كان هتلر مسلماً أم موسوليني أم ستالين؟ إن جرائم كل واحد من هؤلاء وعدد ضحاياهم فاقت مجموعَ جرائم الحكام المسلمين عبر التاريخ.. فإن كانت هي جاهلةً في التاريخ كما قالت في بداية حديثها فنحن لا نجهله.