خطبة الجمعة 29 ربيع الثاني 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الإسلام وأهل الكتاب ـ 1


1ـ ذكرت المتحدثة أن خطابها يأتي لبيان الاختلاف الكبير بين الحضارة الغربية وبين العالم الإسلامي.. متهمة الإسلام والمسلمين عبر التاريخ بالوحشية والتخلف والرجعية.
ـــ والحقيقة أنها تتناسى كيف كان العالم الغربي يرزح في ظلمات الجهل والوحشية والتمزّق والجهل والخرافة، بينما كان العالم الإسلامي يخطو خطوات مبهرة في العلم والحضارة، حتى قال المستشرق (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب): (ولسرعان ما رأيتُهم أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وإنهم هم الذين مدّنُوا أوروبا مادةً وعقلاً وأخلاقاً)، وقد شهد بمثل هذا العشرات من المستشرقين والباحثين الغربيين، وهو أشهر من أن يحتاج إلى إثبات ودليل، وأضاف: ( وإن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقْهم قوم في الإبداع الفني).
2ـ ثم تحدثت في البداية ـ وبشيء من الاستخفاف ـ عن قلة عدد الذين آمنوا برسالة النبي محمد (ص) في مكة.
ــــ وتناست أن السيد المسيح (ع) بكل المعجزات التي أتى بها من إحياء الموتى وإشفاء الأعمى والأبرص والإخبارات الغيبية التي كان يأتي بها، لم ينجح في أن يُقنِع سوى العدد القليل من أبناء مجتمعه، على الرغم من أنه كان يدعو في مجتمع بني إسرائيل القريب جداً مما كان يدعو إليه فكرياً وشرعياً، في مجتمع عرف النبوات المتتالية وآخرهم النبيان زكريا ويحيى (ع).
ـــ وكان الشيء الوحيد الذي عليهم أن يؤمنوا به هو أنه نبي مرسل من عند الله، وأن الإنجيل كتاب منزل عليه من الله.
ـــ بينما كان النبي (ص) يدعو في مجتمع مشرك وثني لم يعرف النبوة لقرون متمادية، والفارق بين الصورتين كبير، خاصة وأن القرآن يؤكد أيضاً ـــ كما في سور الأعراف والأنعام والإسراء ـــ أنه لم تكن للنبي محمد معجزات مادية كإحياء الموتى وإبراء المرضى.. على خلاف السيد المسيح.
ــــ علماً بأن النبي محمداً لم يغادر الدنيا بعد قرابة العشرين عاماً من الدعوة إلا وقد دخل أهل الجزيرة العربية في دين الله أفواجاً.
ـــ لقد أكد التاريخ المسيحي أنه إلى منتصف القرن الميلادي الثاني كانت المسيحية عبارة عن جماعات متفرقة صغيرة على هامش المجتمع ضمن الإمبراطورية الرومانية، بينما استطاع الإسلام أن يكوّن واحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ في نفس هذه الفترة من الزمن. بالطبع هذا لا يعيب السيد المسيح (ع)، بل هذه هي طبيعة الدعوات الرسالية، وطبيعة ردود فعل المجتمعات.
3ـ وادّعت أن النبي عندما قرر الهجرة إلى المدينة حيث اليهود، أراد أن يجذبهم بوسيلتين: الأولى: أنه أخَذ عن العهد القديم مجموعة من التشريعات وجعلها في القرآن، وهو ما أوجد التشابه بين الإسلام وبين اليهودية، من قبيل: حرمة أكل لحم الخنزير، وتكرار الصلاة خلال اليوم الواحد.
ـــ والحقيقة أن القرآن تحدث عن ذلك قبل الهجرة بمدة، وقبل وجود أي مؤشر للهجرة إلى المدينة، ففي سورة الإسراء النازلة في السنة العاشرة من البعثة تحدثت الآية 78 عن الصلاة عدة مرات في اليوم، والسورة في ذات الوقت تذكّر بالتاريخ الأسود لبني إسرائيل، فهل هذا فعل من يريد جذبهم؟
ـــ كما جاء تحريم لحم الخنزير في الآية 115 من سورة النحل المكية النازلة بعد سورة الإسراء.
ـــ والوسيلة الثانية: أنه أثنى على اليهود في القرآن، بينما تغير الأمر لاحقاً... والواقع أن القرآن في العهد المكي قد عرض تاريخ بني إسرائيل بسلبياته وإيجابياته، وتضمن نقداً لسلوكياتهم كما في سورة الأعراف الآية 138، وفي سورة يونس 93، وفي سورة الإسراء من الآية 4-8، وهكذا استمر الأمر في سورة البقرة التي تُعتبر من أوائل السورة المدنية، كما في الآيات من 74 إلى 123.
ـــ ثم إن القرآن أثنى في السور الأولى على المؤمنين من أهل الكتاب كأصحاب الأخدود في سورة البروج، وهكذا في السور المتأخرة من العهد المكي كما في قصة أصحاب الكهف والرقيم، ثم استمر في الثناء على بعض أهل الكتاب في العهد المدني في أوج الصراع معهم: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ... لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:110-114]، ثم في نهايات العهد المدني كما في الآية 82 من سورة المائدة: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ).
ــ والمسألة التي لم تفهمها هي أن القرآن لا يجامل أحداً، بل المسألة هي مسألة قيم ومباديء والتزام.
ـــ أعود وأذكّر من جديد، أن الإسلام يواجه اليوم هجمةً شرسةً متعددةَ الأطراف والغايات، تشكيكاً وتشويهاً، وافتراءً... ومن مسؤوليتنا أن ندافع عن ديننا، كلٌّ بحسبه. وإنَّ الاستغراقَ والإمعانَ في الخلافات البين مذهبية وتصعيدَ وتيرتِها لن يخدمَ أحداً سوى المتربصين بنا جميعاً، سنةً وشيعة، فرأسُ الإسلام، كل الإسلام، هو غايتهم.. فلنجعل من الدفاع عن الإسلام مادةً لتوحيد الكلمة والصف، ودافعاً للتركيز على ما نشترك فيه، ليكون منطلَقاً للعمل المشترك في مواجهة عدوٍّ تناسى خلافاتِه العميقةَ والتاريخية، وتفرّغ لتحطيمنا، بتوظيف كل الأدوات المتاحة لديه.. إنهم لا يعرفون طعم الراحة في هذا الطريق، ونحن مستغرقون في استرخاء أبدي، إلا فيما يُمعن بتمزيقنا داخلياً أكثر وأكثر.