خطبة الجمعة 8 ربيع الثاني 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مقولة التطور الطبيعي للعقيدة


ـــ ودّع العالم العام 2016 بكثير من التفاؤل تجاه ما يتعلق بالإرهاب التكفيري وكياناته، بناءً على تقلُّص مساحات سيطرتها على الأرض في سوريا والعراق وليبيا وغيرها، ولظهور بعض التفاهمات الإقليمية والدولية بخصوص الوضع القائم في سوريا، وما إلى ذلك من عوامل.
ــــ إلا أنه سرعان ما أطل الإرهاب التكفيري بوجهه القبيح في تركيا والعراق ومصر وليبيا، لتعود معها الارتدادات الفكرية المطالِبة بمحاكمة الإسلام ـــ أو مراجعته ـــ على المستويين الفكري والتشريعي، ومن بينها مقال نشر مؤخراً في إحدى الصحف المحلية، وخلاصة أفكاره أن:
1ـ تغيُّر الأديان ـ كل الأديان ـ أمر طبيعي ومحمود، وناتج عن تبدل ظروف الحياة.
2ـ هذا التغير لا يتحقق عادةً إلا بهجر النصوص الدينية وعدم العمل بها.
3ـ التغير وإن كان بطيئاً، وقد يستغرق مئات أو ألوف السنين، ولكنه أمر حتمي، ويمكن أن يتسارع تحت وطأة بعض الظروف.
4ـ فالكنيسة الكاثوليكية ـــ بعد ألفي عام ـــ باتت تناقش بجدية قضايا من قبيل إباحة الإجهاض،
واستعمال وسائل منع الحمل في حين كان مجرد التطرق إليها من المحرمات، فضلاً عن شرعنتها.
5ـ ومؤخراً قامت الكنيسة ـــ في العالم المسيحي الغربي ـــ بشرعنة زواج الشواذ، واعترفت حكومات الولايات المتحدة وأوروبا بكل تبعات ذلك الزواج.
6ـ كما كان للمسلمين تجربة تغييرية بعد وفاة النبي(ص)، حيث تم تجميد بعض الحدود وتغيير بعض الأحكام، كما نجد أن كل العالم الإسلامي تقريباً قد هجر عقوبة قطع يد السارق، بعد أن ثبت أنها غير عملية ولا عادلة، حين تساوي بين سرقة مبلغ تافه، وسرقة شيء لا يُقدَّر بثمن!
7ـ الإسلام مقبل على هذا التغير لا محالة، والسبب الرئيس هو ما انكشف من خلال السلوك الإجرامي الرهيب لداعش وأخواتِها.
ـــ والجواب الإجمالي عما سبق يأتي في نقاط:
1ـ هناك خلط متعمد أو ناشيء عن جهل ـــ يقع فيه أصحاب هذه الأطروحات ـــ بين الأسس الفكرية للدين (العقيدة) وبين تشريعاته.. وخلط آخر بين الرسالات السماوية والأديان الوضعية (الأرضية).
ـــ ومن الخطأ أن تُقاس الديانات الأرضية بالسماوية.. فلكل شأنه الخاص، وكلامنا عن الثانية.
ـــ الأسس الفكرية للرسالات السماوية منزَلة ومحدَّدة من قبل الله تعالى، وهي واحدة لا تتغير عبر الزمان والمكان: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.. فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ) [الشورى:13-15].
ـــ وليس لأحد الحق ـــ بمن فيهم النبي (ص) ـــ أن يبدّل فيما أنزل الله أو يغيّر منه شيئاً: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة:44-46].
ـــ أما التشريعات المنزَلة، فقد تتغير قليلاً وبشكل محدود، من رسالة إلى أخرى، كما جاء على لسان عيسى(ع): (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)آل عمران:50].
ـــ كما قد تتغير في مسيرة الرسالة الواحدة من ظرف إلى آخر، وذلك برفع بعضها، أو بإبدالها بغيرها، وهو ما يُعرف بنسخ الأحكام.. ومردّ هذا إلى تطور البشرية وتبدّل الظروف.
ـــ ولأن الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع، فقد جعل الله فيها من المرونة وقابلية التكيف مع الظروف المتبدلة ما يكفل لها الصلاحية عبر الزمان والمكان، وذلك من خلال:
أـ السماح بالعمل بالأحكام الثانوية وفقاً للظروف الاستثنائية.. فللموضوعات أحكام أولية تمثّل موقف المشرِّع تجاهها في الحالات العادية والمستمرة، ولها أحكام ثانوية تمثّل موقفه في الحالات الاستثنائية؛ من قبيل: (الاضطرار، الحَرج، العَجز، الجهل، الإكراه، النسيان، الضرر، التقية).
ـــ ومن أمثلة ذلك المنصوص عليها: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:173].
ب ـ وجود منطقة خالية من أيّ حكمٍ إلزاميّ، لا وجوب ولا حرمة، يستطيع فيها الحاكم الشرعي أن يتحرك بمرونة لوضع التشريعات المؤقتة وفقاً للظروف المتبدلة.
ـــ إذاً هناك أحكام إلزامية وهي ثوابت تشريعية، كحرمة الربا والغش وقانون الإرث، وهناك أيضاً أحكام متغيّرة، من قبيل تلك المرتبطة بإحياء الأرض الموات، واستخراج المعادن والنفط وغير ذلك.
2ـ هناك خلط آخر بين الدين ـــ فكراً وشريعةً ـــ من جهة، وبين الفهم البشري لهما.. فالأول سماوي ومعصوم عن الخطأ، بينما الثاني هو نتاج اجتهاد العلماء والمفكرين، وبالتالي فهو قابل للخطأ.
ـــ حرمة العلاقة الغريزية بين الجنس الواحد من الدين، وحد السرقة منصوص عليه في القرآن الكريم، وبالتالي فهو من الدين أيضاً، ولا يمكن أن يتغير... وأما إعدام المرتد فلم يرد فيه نص قرآني، أي أنه من الفهم والاجتهاد البشري، وبالتالي فهو قابل للاجتهاد الخاطيء وتبدّل الحكم.
ـــ وللتوضيح، فإن حد السرقة لا يُقام إلا بعد تحقق 9 شروط، وأوصلها بعض الفقهاء إلى 13 شرطاً! فمن قال أن يد السارق للمبلغ الزهيد تُقطَع كما تُقطع يد السارق لما لا يُقدَّر بثمن؟ ومن قال أن السارق بسبب الجوع والفقر، أو في الظروف الاستثنائية كالمجاعات، تُقطع يده؟
ـــ والسارق لِمَا تُرك بلا حفظ لا يُقطع، فعن علي(ع): ( لا يُقطَع إلا مَن نَقَب بيتاً أو كسر قفلاً).
ـــ ومن لم تكتمل جريمته لا يُقطَع، فعن أمير المؤمنين (ع): (أنه أتي بلص نقَب) حفر حفرة في الحائط لدخول المكان (فعاجلوه فأخذوه) أي لقطع يده (فقال: عجلتم عليه. فضربه) أي جُلد 20 جلدة كما في رواية أخرى (وقال: لا يُقطع مَن نَقب بيتاً، ولا من كسر قفلاً، ولا من دخل البيت فأخذ المتاع حتى يُخرجَه من الحِرز، ولكن يُضرب ضرباً وجيعاً، ويُغرَم ما أفسد).
ـــ ثم إن هذا كله يجب أن يتم بعد إعمال العدالة في المجتمع الإسلامي، واستحكام القانون ومساواة الناس أمامه بما فيهم الحاكم ذاته، وتطبيق نظام التكافل الاجتماعي الذي يخفف من وطأة الفقر والحاجة، مع العناية بشؤون التربية الصحيحة والتوعية الإعلامية المتعلقة بهذا العنوان.
3ـ في المقالة عدة مغالطات، من قبيل أن الكنيسة في الغرب اعترفت بزواج الشواذ، فالواقع أن الغالبية العظمى ترفض ذلك، والتي قبلت بها تمثل حالات شاذة.. وهكذا فإن الدول الغربية التي سمحت به محدودة.. كما أن هجر غالبية الدول الإسلامية لحد السرقة لم يكن بناء على ثبوت عدم عدالة هذا التشريع، بل لهجران عموم الحدود الشرعية انطلاقاً من علمنة الحكومات.
ـــ وأخيراً أقول: نعم، التغير سنة الحياة، إلا أنه يجب عدم الخلط بين الدين وبين فهم الدين... بين القواعد الفكرية للإسلام، وبين الأحكام والمفاهيم الظنية المستنبطة... بين ثوابت الإسلام في المحرمات والواجبات، وبين دائرة المباحات.. فما نَزَل من السماء من أسس فكرية ومن تشريعات ملزِمة تُعتَبر ثابتة لا تتغير بتغير الظروف. وإن توقف العمل ببعض تلك التشريعات بعنوان ثانوي كالاضطرار والحرج، إلا أن هذا لا يلغي الحكم الأولي الأصيل... وأما ما بَذل فيه الإنسان جهداً للفهم فقابلٌ لأن يتغير، لأنه في نهاية المطاف جهد بشري قابل للخطأ والصواب. والادعاء بأن الجرائم المرعبة للجماعات الإرهابية التكفيرية تكشف عن الوجه الحقيقي للإسلام، مما سيحفّز للإسراع في تغيير الإسلام فكراً وشريعةً، وهجْر نصوصه، فمحْض أوهامٍ وهُراء، لأن الإسلام العزيز بقرآنه وسنة نبيه (ص) وتعاليم أهل بيته (ع) بَراء من تصورات تلك الجماعات وسلوكياتها ومشاريعها التي لا تخدم سوى الاستكبار العالمي المتربّص سوءً بالإسلام وأهله.