خطبة الجمعة 24 ربيع الأول 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: هل حرّم الإسلام الخمر؟


ــــ هل حرّم الإسلام الخمر؟ لعل الإجابة الإيجابية تبدو بديهية لدى الإنسان المسلم... إلا أنه أثيرت مؤخراً عبر بعض وسائل التواصل الاجتماعي شبهةُ حلية الخمر في استعادةٍ لما طُرح قبل أقل من سنة عبر وسائل الإعلام، ليُعاد تسخين الموضوع مجدداً، ولتثار حوله بعض الأسئلة غير البريئة أحياناً، وليقفز دعاة الإلحاد واللادينية إلى المشهد من جديد في محاولة لاستغلال ثغرة هنا وهناك.
ــــ قالوا بأن القرآن استحسن اجتناب الخمر، ولكنه لم يحرمه بشكل صريح في أيَّة آية، ودليلهم:
1) وصَف الله المسكر بالرزق الحسن: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل:67].
2) أمَر الله بعدم إقامة الصلاة في حالة السكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء:43]، وهذا يعني أن المصلي قد يشرب الخمر ويسكر.
3) أقرَّ القرآن بأن للخمر منافع: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) [البقرة:219].
4) أوصى القرآن بالاجتناب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:90]، ولم يحرم الخمر، ولو أراد تحريمها لاستعمل فعل (حرّم) كما استعمله في الآيات التي تخصّ الميتة، والدم، ولحم الخنزير: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) [البقرة:173].
ــــــ وكونها من عمل الشيطان فذلك ليس في ذاتها، وإنّما في الآثار السيئة المترتبة على شربها على الصحّة وعلى المستوى الاجتماعي... فالأفضل إذاً الإمساك عنها، وتجنب الإدمان.
ــــ هذه خلاصة ما استُدلّ به على عدم تحريم الخمر، والشبهة قديمة وأثيرت بحسب رواية علي بن يقطين في الكافي من قبل الخليفة العباسي الملقب بالمهدي، قال: (سأل المهدي أبا الحسن (ع)) أي الإمام موسى الكاظم (عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل؟ فإن الناس إنما يَعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم لها....).
ـــــ والرد على الشبهة في نقاط:
ــــ أولاً، في قوله تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) الرزق الحسن ليس وصفاً للمسكرات، بل للثمرات، أي هناك مقابلة بين السكر والرزق الحسن، وكأن الآية تقول: لقد أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب، فأحياناً تُحسنون التصرف بها حيث تتحول إلى مصدر للرزق بالتجارة بها، وأحياناً تسيئون التصرف بها حين تصنعون منها المسكرات.
ــــ ثانياً، الأمر بعدم إقامة الصلاة في حالة السكر جاء ضمن خطة معالجة المشكلة بالتدريج.
ـــــ فنحن نتكلم عن مجتمع كان مدمناً على الخمر، يعشق هذا المسكر إلى درجة أن الإغراءات القرآنية لهم بالجنة تضمَّنت هذا العنوان، وإن نُزعت عن هذا الشراب الصفات القبيحة، قال تعالى: (لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات:45ـ47] أي ليس فيها مضار الخمر ولا إسكارها، وقال سبحانه: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ)[الواقعة:19] أي لا يصيبهم بسببها صداع ولا سكر.
ــــ فكان لابد من التدرّج في التشريع والتدريب على الامتناع عنها، وذلك بلحاظ تكرار الصلاة التي التزموا بها خمس مرات يومياً وفي أوقات متعددة، مما يجعل من إقامتها مقدمة لترك السكر.
ـــــ ثالثاً، إقرار القرآن بأن في الخمر منافع حيث قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) لا يدل على إباحة شربها، لعدة أسباب:
أـ لعل لكل مباح وواجب سلبية أو ضرر، ولكل حرام إيجابية أو منفعة.. فللصيام ـــ مثلاً ـــ سلبية الإحساس بالجوع.. وللربا إيجابية زيادة رأس مال المرابي.. فلماذا أوجب الله الصيام وحرّم الربا؟ لأن المنافع والإيجابيات في الصيام أكثر من مضاره وسلبياته، ولأن المضار والسلبيات في الربا أكثر من منافعه وإيجابياته. وبالتالي فمعيار الإباحة والوجوب والتحريم ليس إطلاق المنفعة أو الضرر، بل بحسب نسبة كل منهما في ذلك الأمر.
ب ـ ذكرت الآية أن في الخمر إثم كبير، وليس مجرّد إثم، أي أنّ الإثم هو العنصر الغالب في الخمر، فهل في هذا التعبير إباحة لشربها؟
ج ـ هذا التعبير الوارد في الآية بصدد تثقيف الناس بالعناصر السلبية الكامنة في الخمر والتي دفعت إلى تحريمه، ليكون امتناعهم عنها ناشيء عن قناعة وفهم، وبالتالي أكثر رسوخاً في النفس.
ــــــ رابعاً، مَن قال أن القرآن لم يستعمل كلمة (حرّم) بخصوص الخمر؟ ففي الخبر السابق الذي رواه الكليني عن علي بن يقطين قال: (فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أمير المؤمنين. فقال له: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله جلَّ اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله عز وجل: [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ].... وأما الإثم فإنها الخمرة بعينها وقد قال الله عزوجل في موضع آخر: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ]، فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمرة والميسر، وإثمهما أكبر كما قال الله تعالى. قال: فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية) افتخاراً بها وبصاحبها لأن المهدي العباسي هاشمي أيضاً (قال: قلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يُخرج هذا العلم منكم أهل البيت) وابن يقطين يقصد الإمام فأدرك ذلك المهدي (قال: فوالله ما صبر المهدي أن قال لي: صدقت يا رافضي).
ـــــ أما لماذا اعتمد القرآن هذا الأسلوب، فلما ذكرناه في النقطة (ج) من أنّ طبيعة العلاج لهذه المشكلة كانت تستدعي مثل هذا التدرج في الأسلوب، وفي التوجيه والتشريع.
ــــــ ثمّ إنّ القرآن قال (فَاجْتَنِبُوهُ) ولو راجعنا لسان العرب لابن منظور وجدناه يقول: (جَنَّبَ الشيءَ وتجَنَّبَه وجانَبَه وتجَانَبَه واجْتَنَبَهُ: بَعُد عنه) فليس المراد مجرد عدم الشرب بل الابتعاد عن الخمر.
ــــ إن الإسلام اليوم مستهدَف في أسسه الإيمانية، وفي تشريعاته، وفي كتابه السماوي، وفي حضارته، وفي شخصياته، وفي وجوده وامتداده، ومن مسؤوليتنا أن نرصد كلَّ ذلك.. وإن كانت خطبتي هذه عن التشكيك في تحريم الخمر، والرد على ذلك، فإن المسألة لا تقف عند حد مفردة تشريعية هنا وإشكالية تاريخية هناك، وليست هي إثارات فكرية بريئة كجزء من حق الإنسان في أن يسعى لعقلنة الأمور، بل المطلوب هو رأس الإسلام.. نحن مع العقلنة، ومع السؤال والبحث والحوار، ومع الإيمان والعمل عن قناعة وبصيرة، إلا أن هذا شيء، وما يُثار اليوم من شبهات وحركة محمومة لدفع الشباب للتمرد على كل ما له ارتباط بالإسلام، شيء آخر تماماً، وهو ما يستدعي منا الحذر والرسد والعمل الجاد والدؤوب لحماية الرسالة من سهام المغرضين.