مجلس البكاي 1438 : ليلة 20 محرم : الرحمة


ـ عن أسامة بن زيد: (أَرسلت ابنة النبي (ص) إليه) وهي السيدة زينب (ت8ه) وزوجها أبو العاص، والابن هو علي بن أبي العاص (إن ابنا لي قُبِض، فأتنا. فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكلٌّ عنده بأجل مسمى. فلتصبر ولتحتسب. فأرسلَت إليه تُقسم عليه ليأتينها. فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ورجال، فرُفع إلى رسول الله (ص) الصبي ونفسه تتقعقع) التقعقع: صوت الشيء اليابس عند التحريك (قال: حسبته أنه قال كأنها شَن) جلدٌ يابس يُغطَّى به الطبقُ (ففاضت عيناه. فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله مِن عباده الرحماء).
ـ يفترض أن تكون الرحمة صفة ذاتية في الإنسان بلحاظ وجود العاطفة، إلا أن بعض العوامل التربوية والبيئية والظروف التي يمر بها الإنسان قد تسلب هذه الرحمة، فيقسو الإنسان على الآخرين، أو يكون لا أبالياً.
ـ الرجل العربي الجاهلي تربى وتلقى مفاهيم خاطئة حول الرحمة.. بين العيب و الظروف القاسية... إلخ.
ـ ولنلاحظ هذا المثال: (قبَّل رسول الله (ص) الحسن بن علي, وعنده الأقرع بن حابس التميمي) الأقرع بن حابس بن عقال التميمي المجاشعي الدارمي، قيل اسمه فراس بن حابس، كان على دين المجوسية، وفي الجاهلية كان يُعَد من سادات خندف ـ أحد أجداد قريش وبني تميم ـ وهو خال الشاعر المشهور الفرزدق، وأم الفرزدق هي ليلَى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس. وهو أحد حكام العرب في الجاهلية.
وفد بنو تميم، فيهم الأقرع بن حابس التميمي، فلمّا دخل الوفد المسجد نادوا رسول الله من وراء حُجُراته: أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله من صياحهم، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك! قال الأقرع بن حابس: يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين! فقال رسول الله: ذلكم الله سبحانه. فما تريدون؟ قالوا: نحن ناس من تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك ونفاخرك. فقال النبي: ما بالشعر بُعثنا، ولا بالفخار أُمِرنا، ولكن هاتوا. فقال الأقرع بن حابس لشاب منهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وقومك. فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن خيرٌ من أهل الأرض، أكثرهم عدداً وأكثرهم سلاحاً، فمن أنكر علينا قولَنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وبفعال هو أفضل من فعالنا. فقال رسول الله لثابت بن قيس الأنصاري: قم فأجبه. فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه... ورد التميميون بشعر ثم رد عليهم حسان وهكذا إلى أن دنا الأقرع إلى النبي فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال رسول الله: لا يضرك ما كان قبل هذا.
وللرجل مواقف غير محمودة، من بينها موقفه في حنين حين طلب النبي ممن معه أن يهبوا الأسرى بحسب طلب الشيماء، فعلوا ذلك إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وقالا: يا رسول الله، إن هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا، فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا. فأقرع رسول الله بينهم ثم قال: اللهم توّه سهميهما. فأصاب أحدهما خادماً لبني عقيل، وأصاب الآخر خادماً لبني نمير، فلما رأيا ذلك وهبا ما منعا (الرجلان من بني تميم وكانت لهما علاقات مع بني نمير وبني عقيل حتى أن بني نمير استنجدوا بالتميميين على أعدائهم ذات مرة).
(فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد, ما قبَّلت منهم أحداً, فنظر إليه رسول الله (ص), ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم).
ـ وجاء الإسلام منذ بداية الدعوة ليصحح هذا المفهوم المتعلق بالرحمة مع التذكير المستمر من خلال البسملة.
ـ في سورة البلد (احتمال ترتيبها 35 ـ وفي المصحف 90) (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ).
ـ وهذه الآيات لم تكتف بالتذكير بالرحمة، ولا تعاملت مع الرحمة على أنها مجـرّد خُلُق نعيشه، بل هي مسؤولية على المسلم أن يتحمّلها، بأن يوصي كل فرد الآخر بأن يرحم أخاه، فتكون الرحمة وصيّة المؤمنين في مجتمعهم، لكي لا تأخذ المشاكل حريتها في الحركة، وتسيطر على مواقع الأمن الاجتماعي لتنسفه.
ـ ومن هنا قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات:10].
ـ هذه مسؤوليتهم بأن ينطلقوا بفعل الرحمة نحو المتخاصمين، وليدخلوا بينهم، ولا يسمحوا للمشاكل بأن تتعقد، بحيث تتحوّل إلى مشاكل مستعصية تحرق الأخضر واليابس.
ـ ولو أصرَّ أحدهم على البقاء في مواقع البغي، فإنَّه يجب على المجتمع أن يتحرّك على أساس الرحمة، بإجراء عملية جراحية ينقذ بها نفسه (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات:9].
ـ والترجمة العملية للتراحم في مجتمع الإسلام كانت مسألة الإخاء عند الهجرة والتي مجّدها القرآن: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون).
ـ هذه الصورة الرائعة ليست بسيطة، على مستوى الكلام الأمر ممكن، ولكن على مستوى الفعل الأمر مختلف أن تقاسم أموالك وتسكن الغريب في بيتك لمدة طويلة ولربما لسنوات وتشركه في تجارتك أو زراعتك أو غير ذلك.
ـ الإيمان ليس مجرّد حالة عقلية تعيشها من خلال ما تحمله من فكر، بل هو حالة شعورية عميقة تشعر فيها بالعاطفة تّجاه كلّ من يحمل هذا الإيمان، لأنَّ معنى أن تحبّ اللّه، أن تحبّ من أحبّ اللّه، وأن تحبّ من أحبّه اللّه.. هذا مظهر من مظاهر الرحمة.
ـ وبذلك، انطلقت الرحمة لتكون مصدر قوّة لهم، لأنَّ المجتمع الذي يعيش الحالة الشعورية المترابطة، هو مجتمع لا يستطيع الآخرون أن ينفذوا إلى داخله، لأنَّ الرحمة تسدّ الثغرات التي يستغلها الآخرون، وتمنعهم من النفاذ إلى داخل البيئة الاجتماعية.
ـ كيف ينفذ الآخرون إلى مجتمعاتنا؟! إنَّهم ينفذون لأنَّنا لا نعيش بشخصية المجتمع، ولكنَّنا نعيش بشخصية الفرد.
ـ قد أعيش معك وتعيش معي في بيت واحد، ولكن عندما تفكر في نفسك بصفتك الفردية، وأفكر في نفسي بصفتي الفردية، فمعنى ذلك أنَّه لا رابطة بيننا، وإن كان البيت يضمّنا.
ـ ولو فقد اهتمامه بآلام إخوانه، فإنَّه يخرج عن الإسلام صفةً، لا حُكماً بالطبع.
ـ في الحديث النبوي: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى).
ـ (من لـم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم).
ـ ومن هنا، نرى أنَّ الإسلام يركّز على العلاقة التي تجعل الإنسان يعيش الشعور بالآخرين من المؤمنين، كما يشعر بنفسه، والمسألة تحتاج إلى تربية، ومعاناة، وجهاد نفس، ووعي.
ـ وهكذا، استطاع ذلك المجتمع المسلم الصغير، بالرغم من وجود نقاط الضعف والمشاكل فيه، أن يشكل قوّة : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح:29].
ـ التركيز الإلهي جاء على أنَّ مجتمع الرسول(ص) هو مجتمع الراكعين الساجدين، الذين يبتغون من اللّه فضلاً ورضواناً.
ـ وهذا يعني أنَّ الجانب الروحي المتحقق من خلال العبادة للّه، والخضوع له، والابتهال إليه، يعتبر الأساس في حياة المسلم، وهو الذي يعطي القوة للتراحم البيني، والشدة مع العدو.
ـ وقد تجلت الرحمة الحسينية في أحداث كربلاء في أكثر من مشهد.. من بينها وهو في الطريق إلى الكوفة، حيث أمر فتيانه في وقت السحر فاستقوا من الماء فأكثروا، وسار بعدها فلما انتصف النهار، كبّر رجل من أصحابه فقال له مما كبَّرت؟ قال: رأيت النخل. فقال رجلان من بني أسد: ما بهذه الأرض نخلة قط فقال الحسين: فما هو؟ فقالا: لا نراه الا هوادى الخيل. فقال وأنا أيضا أراه ذلك. والتجأ الإمام ومن معه إلى ذي حُسَم لحماية أظهرهم عند المواجهة المحتملة، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه في حر الظهيرة فقال الحسين: اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً... وهكذا كان.... قال علي بن الطعان المحاربي: كنت آخر من جاء من أصحاب الحر، فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال: انِخ الراوية. والراوية عندي السقاء، ثم قال: يا ابن أخي انخ الجمل. فأنختُه، فقال: اشرب. فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين أخنث السقاء. أي اعطفه. قال: فجعلت لا أدرى كيف أفعل، قال: فقام الحسين فخنثه، فشربت وسقيت فرسي.
وفي مقابل هذه الرحمة الحسينية نجد التوحّش عند أعدائه الذين حبسوا عن معسكره الماء أكثر من مرة، وقتلوه ومن معه عطشى.. تلك مدرسة الإسلام، مدرسة الرحمة، والأخرى مدرسة الباطل، مدرسة الشيطان، مدرسة القسوة والظلم.