مجلس البكاي 1438 : ليلة 17 محرم : عندما تضيع الأولويات


ـ (وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:143-144). ـ فكرة الآيات 136 ـــــ 150 استعراض للبدع التشريعية عند مشركي مكة فيما يرتبط بالأنعام. وإنكار مِن الله سبحانه لها ومطالبتهم بالإتيان بالبراهين على أنها من عند الله.
ـ ولكن الملفت للنظر أن الله سبحانه حوّل القضية في الحديث عن التحريم إلى جوانب أخرى هي الأساس في تنظيم الحياة وتكوين الشخصية الإيمانية، فقال (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:151-153].
ـ فإذا أردتم الحديث عما هو حرام، فهذه هي العناوين التي حرمها الله، وهذه هي أولوياتكم، وهذه هي التي يجب أن تبحثوا فيها وتطبّقوها على حياتكم.
ـ أولوياتنا في التدين غير سليمة، فالتركيز قائم على جانب محدد من الفقه الفردي، حتى تجد أن الرجل بعد كل هذا العمر من الحضور في المساجد والحسينيات في قمة الاحتياط والاهتمام بوضوئه وغسله، ولكنه في ذات الوقت في قمة سوء الخلق في علاقته بأسرته.
ـ في حال أن النبي يقول: (خيرُكم خيرُكم لنسائه وبناته)
(أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيارُكم خيارُكم لأهله)
(أقربُكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنُكم خُلُقاً وخيرُكم لأهله)
وعن علي: (لا يكن أهلُك وذوو ودِّك أشقى الناس بك) مع الربع في الديوانية شي ومع أهلك شي
ـ وأوصى علي ابنَه الحسن (ع) وولده وأهل بيته: (الله الله في النساء وفيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به نبيكم أن قال: أوصيكم في الضعيفين: النساء، وما ملكت أيمانُكم)
ـ وعن الصادق: (رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته، فإن الله عزوجل قد ملّكه ناصيتَها وجعله القيم عليها).
ـ وهكذا تجده في قمة الاحتياط في تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والتشهد إلى حد الوسوسة، ولكنه لا يبالي إن خاضَ في أعراض الناس وفضَح أسرارهم وبهتهم وأفسد فيما بينهم.
ـ والله تعالى يقول: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)[الهمزة:1].. ويقول: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب:58].
ـ تجد المرأة في قمة الالتزام بإقامة سفرة أم البنين، والذهاب إلى زيارة العتبات، ولكنها لا تبالي أن تُفسد علاقة ابنها بزوجته، وتتهمها بالباطل، وتدفعه كي يطلقها، لمجرد أنها تغار عليه منها، أو لأنها تجده يحبها ويهتم بشأنها، وأمثال ذلك.
ـ بل إن بعض الأمهات المتدينات يلجأن إلى السحرة والمشعوذين للتفريق بين الابن وزوجته!
ـ كما قد تلجأ بعض النساء للسحر للتفريق بين زوجها وأمه، ولتحبيبه بها!
ـ في الخبر عن الصادق(ع): (قال رسول الله (ص) لامرأة سألته إنّ لي زوجاً وبه عليّ غلظة، وإنّي صنعت شيئاً لأعطفه عليّ، فقال لها رسول الله (ص): اُفّ لك، كدّرت البحار، وكدّرت الطين، ولعنتك الملائكة الأخيار، وملائكة السماوات والأرض...).
1ـ النظرة التجزيئية غير المتكاملة لمسائل الدين والشريعة.
2ـ والتركيز على جانب من النصوص، وإهمال سائر النصوص التي تعالج ذات القضية وتُكامِلها مفهوماً وتطبيقاً. على طريقة (ويل للمصلين) يسمع ما يشتهي فقط.
3ـ وكذلك التركيز على بُعد محدد من القضية دون سائر أبعادها (زوجتي طلعت من البيت بدون)
4ـ علاوة على إهمال مقاصد الشريعة، وغاياتها النبيلة، التي لا تقف عند حد الحكم الشرعي، بل وتتداخل معها الجوانب الأخلاقية، وتدفع نحو تقديم الأولويات والأهم على المهم.
ـ كل ما سبق قد يفضي إلى تكوين صورة ناقصة ومشوهة عن موقف الإسلام من هذه القضية على مستوى المفاهيم، وإلى نتائج وخيمة، أو عكسية، أو قاصرة، على مستوى التطبيق.
ـ وفيما يلي أمثلة تطبيقية للفكرة السابقة من وقاع الحج مثلاً فيما نشهده كل عام:
ـ في المثال التالي نتلمس قراءة جامدة للمسألة الشرعية وعدم مراعاة لروح الشريعة. فعن أبي عبداللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: (كنت أطوف وسفيان الثوري قريب مني، فقال: يا أبا عبداللّه، كيف كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يصنع بالحَجَر إذا انتهى اليه؟ فقلت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يستلمه في كل طواف فريضة ونافلة. قال: فتخلّف عني قليلاً، فلما انتهيت إلى الحجر جزت ومشيت فلم استلمه، فلحقني فقال: يا أبا عبداللّه، ألم تخبرني أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يستلم الحجر في كل طواف فريضة ونافلة؟ قلت: بلى. قال: فقد مررت به فلم تستلم؟! فقلت: إن الناس كانوا يرون لرسول اللّه (ص) ما لا يرون لي، و كان إذا انتهى إلى الحجر أفرجوا له حتى يستلمه، وإني أكره الزحام).
ـ ونلاحظ هنا اختلال المعايير لدرجة تدفع المُحاور للاستغراب. فعن أبان بن تغلب قال: (كنت أطوف مع أبي عبد الله [الصادق] عليه السلام فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة، فأشار إلي، فكرهت أن أدع أبا عبد الله عليه السلام وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذ أشار إليّ أيضاً، فرآه أبو عبد الله فقال: يا أبان إياك يريد هذا؟ قلت: نعم، قال: فمن هو؟ قلت: رجل من أصحابنا. قال: هو على مثل ما أنت عليه؟ قلت: نعم. قال: فاذهب إليه. قلت: فأقطع الطواف؟ قال: نعم. قلت: وإن كان طواف الفريضة؟ قال: نعم).
ـ ومن هنا جاءت بعض الدعوات للاهتمام بما يعرف بفقه الأولويات المتضمّن في عدة من الآيات الشريفة مثل قوله سبحانه: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) التوبة: ١٩.
ـ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[البقرة:189].
ـ من حقّ النّاس على النبي أن يبتدئهم بالمعرفة إذا لم يسألوه، وأن يجيبهم إذا توجهوا إليه بالسؤال، ولكن لربما يتجه الإنسان في سؤاله في الاتجاه الخاطئ، نتيجة اهتمامه بأمور لا تُسمن ولا تُغني من جوع، أو في قضايا تعود عليه بالضرر، أو بمسائل وهمية باطلة، ثم يضيع في تفاصيل لا تُحقِّق له نتيحة تُذكر.
ـ والمسؤولية هنا أن يتم توجيه هذا السائل إلى السؤال الصحيح، والاتجاه السليم ليصل إلى المعرفة المفيدة.
ـ ولعل الآية تأتي في هذا الإطار، حيث سئل النبي عن السر وراء التشكلات المختلفة للأهلة، فوجهتهم الآية إلى مسار آخر، وكأنها تقول لهم ابحثوا عما يحقق لكم الفائدة العملية منها.
ـ وهكذا على مستوى السلوك.. فقد كانوا يتصورون أن الشرع يحتّم عليهم عدم دخول البيوت من أبوابها، بل من ظهورها ما داموا في حال الإحرام، وأن هذا من البِر العملي.. فجاءت الآية لتبيّن لهم المفهوم الصحيح للبِر، وهو أن يمتلك الإنسان التقوى، لتجعله التقوى إنساناً صالحاً.
ـ وفي بعض الأحاديث كقول أمير المؤمنين علي(ع): (لا قُربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض) لأن عدم الاهتمام بالأولويات، والقراءة المشوهة للنصوص، قد تدفع المسلم إلى تصرفات ومفاهيم عجيبة، كسلوك الخوارج بقتل عبدالله بن خباب بن الأرت وزوجته الحامل بشق بطنها، ونهيهم عن قتل خنزير بري وأكل بضع تمرات سقطت من نخلة!
ـ يجب أن ندرك أن رسالة الدِّين هي رسالة القيم الأخلاقية والروح، والنُّظم الفقهيّة منظِّمة للحياة الاجتماعية تمهيداً لسيطرة القيم الأخلاقية، ومن المؤلم أن نشهد هيمنة الفقه الشّكلاني على القيم الأخلاقية العليا للإسلام، وننسى أن النبي كان يخفّف صلاته ليُقبل على صاحب الحاجة.
ـ في الطبقات الكبرى لابن سعد عن ابن أبي نُعْم قال: (سمعت رجلاً سأل ابنَ عمر عن دم البعوض يكون في ثوبه، فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق. قال: انظروا الي هذا! يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله (ص)! وقد سمعت رسول الله (ص) يقول للحسن والحسين: هما ريحاني من الدنيا). انظروا إلى أولوياتهم، بدلاً من أن يفكروا بما جرى!
ـ بل إن خطورة الأمر في ضياع الأولويات أن يصل الأمر بالإنسان إلى أن يكون في معسكر الباطل ويحارب معسكر الحق فيكون من الهالكين.
ـ وقد بيّن الإمام الحسين(ع) ذلك حيث قال في يوم عاشوراء: (تَبّاً لَكُم أيّتُها الجماعةُ وتَرَحاً، أَحِينَ اسْتَصْرَختُمُونا والِهينَ فأَصْرَخناكُم مَوْجِفين، سَللتُم عَلينا سَيفاً لنا في أَيْمانِكم، وحَشَشْتُم علينا ناراً قْدَحْناها على عدوِّنا وعدوِّكُم، فأصبحتُم إلْباً لأعدائِكُم على أوليائِكُم، ويَداً عليهم لأعدائِكم، بغيرِ عَدلٍ أفشَوْهُ فيكُم، ولا أمَلٍ أصبحَ لكُم فيهم، إلَّا الحرامَ من الدّنيا أَنَالُوْكُم وخَسِيسَ عَيْشٍ طَمِعْتُم فيهِ).