خطبة الجمعة 6 محرم 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: من عوامل تردي المنبر الحسيني


ـ يمكن أن نُرجع التردي الذي أصاب المنبر الحسيني الناطق بالعربية إلى أسباب، من بينها:
1ـ غياب شبه تام لدور المؤسسات التعليمية الدينية في إعداد خطباء متخصصين يمتلكون مؤهلات تتجاوز تحسين الصوت، وحفظ الشعر، وفن الإثارة العاطفية. خطباء:
• أتقياء يخافون الله في الكلمة التي يطلقونها
• وعلى مستوى راق من التحصيل الحوزوي والأكاديمي
• مع متابعة دائمة لآخر الإصدارات الفكرية والفقهية والثقافية
• والاطلاع الجيد على الساحة التي يعملون بالتبليغ فيها والتعاطي المعرفي مع جماهيرها
• ويحمِلون روحاً رسالية، فيرون في المنبر الحسيني وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا أنه مجرد وسيلة للشهرة، أو مراكمة الثروات، أو مهنة لكسب لقمة العيش.. حتى بتنا نشهد من البعض أنه كلما زاد العطاء المالي لهم تنامى عطاؤهم المنبري، والعكس صحيح!
ـ ومن المؤسف أن تجد بعض الخطباء وقد تحولوا إلى ما يشبه إذاعة ما يطلبه المستمعون!
ـ فإذا استضيف من قبل جهة مغالية، رفع سقف حديثِه عن أهل البيت (ع) اعتماداً على معتقدات وروايات الغلاة، على الرغم من أنه لا يعتقد في قرارة نفسه بما يقول!
2ـ ضعف ـ ولا أقول غياب أو فقدان بل ضعف ـ الدور الأبوي الحاسم للمرجعيات الدينية في معالجة سلبيات المنبر الحسيني وترقية أدائه.
ـ بحمد الله شهدنا في هذا الموسم بعض التوجيهات المرجعية بطريقة أو بأخرى، كما أشرت إلى ذلك في الخطبة الأولى حول بيان مكتب سماحة السيد السيستاني.
ـ وكما شهدنا ذلك أيضاً في خطاب سماحة السيد علي الخامنئي الذي تكلم بكل وضوح عن أن الحل لا يكمن في إطلاق التوجيهات أو تشكيل مؤسسة أو هيئة متخصصة.
ـ وأضاف أنه لابد من همة جادة، وعمل متواصل، ومتابعة مستمرة، من قبل نخبة من العلماء والفضلاء للتوصل إلى حلول جذرية، وعليهم أن لا يتهيبوا ردود الأفعال.
ـ ونبّه إلى أن ارتباط الشباب اليوم بالإسلام ارتباط عاطفي، وهو في منتهى القيمة، إلا أنه غير كاف، لأنه كموج البحر يمتد وينحسر.. أما الارتباط المبتني على الفكر فهو ضمانة الاستمرارية.
ـ المجلس الحسيني ما عاد مجلساً مغلَقاً ينتهي مضمونُه بختامه، بل صار مادة دسمة للمتصيدين ممن ينصبون العداء لمدرسة أهل البيت (ع)، وللملاحدة، واللادينيين، ولأجهزة المخابرات التي تعمل على تمزيق المجتمعات، وزرع الفتن، وإثارة النعرات، لأغراض أمنية وسياسية.
ـ هذه الحقيقة تجعل من العمل المرجعي الواعي المتناغم مع متطلبات المرحلة ـ والذي ينبغي أن يكون صارماً أحياناً بإصدار فتاوى تحرّم وتجرّم ما يصدر عن بعض الخطباء مما يسيء إلى المذهب أو يثير النعرات ـ مطلباً حيوياً ومهماً جداً.
ـ في السابق كانت جرأة بعض الخطباء تبلغ مستوى أن ينسبوا ما لله لغير الله.
ـ أما اليوم فقد بلغ ببعض الخطباء أن يتجرأوا على الذات الإلهية بكلام تقشعر له الأبدان.
ـ عن ابن أبي عمير، عن ابن المغيرة، وهو الحارث بن المغيرة النصري من الثقات والأجلاء قال: (كنت عند أبي الحسن (ع) أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن) بن الحسن المجتبى ((ع) فقال يحيى: جُعلت فداك، إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب. فقال: سبحان الله، سبحان الله، ضع يدك على رأسي. فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت. قال، ثم قال: لا والله ما هي الا وراثة) أي نرث هذا العلم كابراً عن كابر وفي نسخة "رواية" بدلاً من وراثة (عن رسول الله (ص)).
ـ لاحظ ردة فعل الإمام الكاظم(ع) كيف كانت عند نسبة ما لله لغير الله.
ـ الرواية الأخرى عن مصادف قال: (لما لبّى القوم الذين لبّوا بالكوفة) قال المجلسي: أي قالوا: لبيك جعفر بن محمد لبيك، كما يلبون لله (دخلت على أبي عبد الله (ع) فأخبرته بذلك، فخرَّ ساجداً وألزق جُؤجُؤَه) صدره (بالأرض وبكى، وأقبل يلوذ بأصبعه ويقول: بل عبدُ الله) وفي نسخة عبدٌ لله (قنٌّ داخر ـ مراراً كثيرة ـ ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته. فندمْت على أخباري إياه. فقلت: جعلت فداك وما عليك أنت من ذا؟ فقال: يا مصادف إن عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه، لكان حقاً على الله أن يَصُمّ سمعه ويُعمي بصرَه، ولو سكتُّ عمّا قال فيَّ أبو الخطاب، لكان حقاً على الله أن يُصِم سمعي ويُعمي بصري) .
ـ وهذا الحضور المرجعي الواضح والحاسم الذي نطالب به، سيمكّن المخلصين ـ أيضاً ـ من المبلغين والخطباء والمثقفين والشباب من الارتكاز عليه من أجل مواجهة مشروع تسطيح الخطاب الشيعي ككل، والخطاب الحسيني على وجه الخصوص.
ـ هذا التسطيح الذي يصعب أن نُقنِع أنفسنا بأنه أمر عفوي تفرزه الظروف بعيداً عن أيادي خفية تعمد إلى تعزيز ذلك إلى المستوى الذي بات فيه البعض يطالب بإعادة المنبر الحسيني إلى وضعه القديم بالاقتصار على المراثي وذكر المصيبة على حد التعبير الدارج.
3ـ غياب ثقافة النقد البنّاء، واستحكام هالة القداسة المحيطة بالخطيب الحسيني، مما يدفع إلى قبول كل ما يُطرَح على المنبر، أو تحسينه، أو التخوّف من نقده إجلالاً لهالة القداسة... أو تفضيل المنتقِدين للسكوت على أن يُمسوا لقمةً سائغةً للخطيب حين يستغل ارتقاءه للمنبر من أجل النيل من (العوام) و(الجهلة) الذين نالوا من (كرامته) و(قداسته)، ويسلّط عليهم قدراته الخطابية ليمسح بهم الأرض، ويستفيد من قداسة المنبر في نظر الناس من أجل تحطيم مَن تجرءوا على انتقاده.
ـ إن المنبر الحسيني منبر الإسلام، ومنبر الوعي، ومنبر القيم الإنسانية.. هو المنبر الذي أسسه الأئمة من أهل البيت(ع) من أجل إبقاء شعلة النهضة الحسينية متّقدة في النفوس من خلال أحداثها البطولية والمأساوية، ومن خلال أهدافها وقيمها.. وهو المنبر الذي قدّم المؤمنون بهذه النهضة المباركة الكثير من التضحيات من أجل ضمان استمرار عطاءاته. ومسؤولية الارتقاء بالمنبر الحسيني مسؤولية مشتركة تقع على عاتق المرجعية الدينية والمؤسسات الحوزوية والعلماء والمفكرين والخطباء، وعلى أصحاب المجالس الحسينية والجماهير.. وهي بالنظر إلى التحديات الفكرية والأخلاقية والأمنية والسياسية التي يعيشها عالمنا الإسلامي أمام مسؤولية لا يُستهان بها، وتتطلب تظافراً في الجهود، وإخلاصاً لله في العمل. نسأل الله تعالى أن يعود المنبر الحسيني للارتقاء مجدداً من هذه الكبوة التي تُلمّ به