خطبة الجمعة 28 ذوالحجة 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: من قتل الحسين؟


ـ عندما بلغت الأمور ذِروتها بين الإمام علي(ع) ومعاوية، ودُقَّت طبول الحرب، صار بعض الناس في حالة ترقّب لموقف عمار بن ياسر.. مَع أي الطرفين سيحسم أمره؟ وهل سيختم حياته في هذه المواجهة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن الذي سيقتله ليمتاز عندهم بذلك الحقُّ من الباطل؟
ـ فقد شاع بين المسلمين قول النبي (ص) بشأنه: (‏تقتله الفئة ‏‏الباغية) كما في صحيح البخاري ح436: (عن ‏عكرمة: قال لي‏ ابن عباس ‏ولابنه‏ ‏علي: ‏انطلقا إلى‏ ‏أبي سعيد) الخدري (فاسمعا من حديثه. فانطلقنا، فإذا هو في حائط يُصلحه، فأخذ رداءه ‏فاحتبى،‏ ‏ثم أنشأ يحدّثنا حتى أتى ذِكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لَبِنَة لَبِنَة،‏ ‏وعمار‏ ‏لبنتين لبنتين. فرآه النبي (ص) ‏فينفض التراب عنه ويقول: ‏ويحَ ‏عمار! ‏تقتله الفئة ‏الباغية. ‏يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار).
ـ ولذا كان البعض من جيش الشام يتوادعون فيما بينهم أنهم لن يقتلوه مهما حصل. في تاريخ دمشق لابن عساكر عن هُنَيّ مولى عمر بن الخطاب قال: (كنتُ أولَ شيء مع معاوية على علي، فكان أصحاب معاوية يقولون: لا والله لا نقتل عماراً أبداً، إنْ قتلناه فنحن كما يقولون).
ـ وفعلاً، استشهد عمار في صفين، وأثار استشهاده ارتباكاً في معسكر الشام. ولكن مع هذا، استطاعت الآلة الإعلامية ـ مع رغبة الناس في التصديق ـ أن توظّف الأمر لصالحها، فقيل للناس: (إنما قتله الذي خَرج به) فصدّقوا ذلك، وبلعوا الطُّعم، واستمروا في قتال علي(ع)!
ـ وإمعاناً منهم في خلط الأوراق وإلباس الحق بالباطل، طالبوا بالصلاة على جنازته!
ـ قال ابن عساكر: (لما بَلغَ أهلَ الشام يومَ صفين أن عمار بن ياسر قد قُتل، بعثوا مَن يعرفه ليأتيهم بعلمِه، فعاد إليهم فأخبرهم أنه قد قُتل، فنادى أهلُ الشام أصحابَ علي: إنكم لستم بأولى بالصلاة على عمار بن ياسر منا! قال: فتوادَعوا عن القتال حتى صلوا عليه جميعاً).
ـ وهكذا تحوّل حديث النبي(ص) من معيار للتقييم، إلى مادة إعلامية وُظِّفَت لصالح طرف معين، اعتماداً على التأويل الباطل، وعلى استعداد الناس للتصديق والخضوع.
ـ ومثل ذلك جرى عند استشهاد الإمام الحسين (ع).
ـ فقد تناقل المسلمون أحاديث النبي (ص) بشأن سبطه وريحانته، كما رووا أحاديث بكائه عليه.
ـ مثال ذلك ما في كنز العمال للمتقي الهندي برقم 37669 عن أم سلمة قالت: (كان النبي (ص) جالساً ذات يوم في بيتي فقال: لا يدخلن عليَّ أحد فانتظرت فدخل الحسين فسمعت نشيج النبي (ص) يبكي، فاطَّلعتُ فإذا الحسين في حجره أو إلى جنبه يمسح رأسه وهو يبكي، فقلت: والله! ما علمتُ به حتى دخل، فقال النبي (ص): إن جبريل كان معنا في البيت فقال: أتحبه؟ فقلت: أمَّا مِن حب الدنيا فنعم. فقال: إن أمتك ستقتل هذا بأرضٍ يقال لها كربلاء. فتناول جبريل من ترابها فأراه النبي (ص)).
ـ وشكّل استشهاده (ع) بالتالي صدمةً عند المسلمين، وتدخّلت الماكنة الإعلامية مرة أخرى من أجل أن تلتف على الحقيقة، وتُوظِّف الحدث لصالح الجهاز الحاكم، اعتماداً على التأويل الباطل، أو من خلال تحميل ابن زياد مثلاً مسؤولية الجريمة الكبرى.
ـ بل تطرَّف بعضهم كالقاضي ابن العربي فقال: (وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر عن الدخول في الفتن).
ـ وماذا قال النبي بحسب ابن العربي؟ (إنه ستكون هنّات وهنّات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان) ثم أضاف ابن العربي مبيناً فكرته: (فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله). وللعلم بأن عدداً من علماء المالكية أفتوا بحرمة دفن ابن العربي في مقابر المسلمين بعد مقولته هذه! وبقي السؤال الكبير حاضراً عبر القرون: مَن قتل الحسين (ع)؟
ـ وتحوّل هذا السؤال تدريجياً إلى مادة للتراشق بالاتهامات بين المذاهب.. فالمتطرفون من كل طرف لجأوا إلى تحميل الطرف الآخر المسؤولية الكاملة عما حدث.
ـ المتطرفون من هذا الطرف حمّلوا أهل السنة مسؤولية استشهاد الحسين (ع).. والمتطرفون من الطرف الآخر حمّلوا الشيعة مسؤولية استشهاده!
ـ والواقع أن الحسين (ع) لم يخرج بعنوان طائفي، بل كانت المسألة كما قال هو (ع): (وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب).
ـ ولم ينصره مَن نصره من أهل المدينة والكوفة وما سواهما لأنه خرج على أهل السنة مثلاً، ولا حاربه مَن حاربه من أهل الكوفة وغيرها لأنه إمامُ الشيعة، بل خرجوا عليه لأنهم استسلموا لأطماعهم، وباعوا آخرتَهم بدنياهم، فكانت المسألة كما قال (ع): (الناسُ عبيدُ الدنيا والدينُ لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشُهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون).
ـ والذي يجب أن نقوله هنا بكل وضوح: إن الذي أمر بقتل الحسين هو يزيد بن معاوية.. وائتمَر ابنُ زياد بأمره، فأنفذ جيشاً من عَبيد الدنيا بقيادة ابن سعد، فقتلوا الحسين وأنصاره، وقطعوا الرؤوس ومثّلوا بالجثامين الطيبة، وأسروا النساء والأطفال، وساقوهم إلى الكوفة، فالشام، بأبشع صورة.
ـ ثم سعوا بعد ذلك إلى قتل قضية الحسين (ع) بالخطاب الديني والإعلامي المزوِّر للحقائق، والمتلاعب بالنصوص والمفاهيم. نقطة آخر السطر.
ـ وعلى المسلمين جميعاً أن يسألوا أنفسَهم: ألسنا نعمل اليوم ـ بصورة أو بأخرى ـ على قتل قضية الحسين (ع) كل عام؟
ـ إن الذين يطالبوننا كل عام بإهمال هذه الذكرى ومحوها من الذاكرة ـ وبتبريرات باردة ـ ويؤنبوننا لإقامة المجالس الحسينية، ويشنّون حرباً إعلامية في هذا الاتجاه، إنما يسعون إلى قتل قضية الحسين، كما سعى الأمويون إلى ذلك من قبل.
ـ والذين يحوّلون ذكرى عاشوراء إلى مناسبة لشحن الصدور ضد إخوانهم من أهل السنة، وللطعن في مقدساتهم، وإثارة النعرات الطائفية، إنما يسعون إلى قتل قضية الحسين، كما سعى الأمويون إلى ذلك من قبل.
ـ والذين يطالبوننا بأن نجعل من ذكرى استشهاد الحسين(ع) وأنصاره يوم فرح وسرور، بحجة أن الشهادة هي السعادة الكبرى، إنما يسعون إلى قتل قضية الحسين، كما سعى الأمويون إلى ذلك من قبل.
ـ والذين يصرّون في كل عام على إحياء هذه الذكرى في صورة ممجوجة وبشعة تشمأز منها النفوس، وتشوّه صورة الثورة الحسينية، بشق الرؤوس، وجرح الأطفال، والمشي على الجمر، والتدحرج على الزجاج المهشَّم، والعواء وأمثال ذلك، إنما يسعون إلى قتل قضية الحسين، كما سعى الأمويون إلى ذلك من قبل.
ـ فلنجعل قضية الحسين (ع) في نهضته المباركة في سياقها الصحيح لنكون صادقين مع أنفسنا ومع الله حين نقول: يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً.