خطبة الجمعة 23 ذي القعدة 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: المسؤولية تجاه الحق


ـ عندما يكتشف الإنسانُ الحق وتقوم عليه الحُجّة البيّنة والأكيدة، تترتب عليه ـ بحسب القرآن الكريم ـ عدة مسؤوليات، من بينها:
ـ الأمر الأول: تسقط حرية الإنسان في اختيار الأخذ بهذا الحق أو تركه، بل يجب عليه الأخذ به، وإلا كان محاسباً ـ ولربما معاقباً أيضاً ـ لتركه والأخذ بسواه.
ـ ومن هنا ذم الله عزوجل البعضَ حين اختاروا عدم الإيمان بنبوة محمد (ص) مع قيام الحجة على صحتها، بل وعملوا على أن يعود المسلمون إلى شركهم القديم، وفضّلوا شركهم على توحيدهم.
ـ قال سبحانه: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)[البقرة:109].
ـ وهل كانت المسألة هي عدم وضوح الحق وعدم قيام الدليل القوي؟ أبداً.. بل كانت المسألة مسألة حسد، والحسد يدفع الإنسان إلى المكابرة وظلم صاحب الحق والوقوف مع الباطل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً) [النساء:51].
ـ ويبلغ ببعضهم العناد والاستكبار عن الحق إلى المستوى التالي: (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ) هل يريدون معرفته والهداية إليه؟ هذا هو السلوك المنطقي والمفترض، ولكنهم طلبوا شيئاً آخر، قالوا: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[الأنفال:32].
ـ الأمر الثاني: تفعيلُ هذا الحق على الأرض وتحويلُه إلى ممارسة عملية، قال عزوجل: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة:213].
ـ فلا يكفي أن تتبنّى الحق، ولا يكفي أن تدَّعي أنك مع الحق، بل لابد أن تسعى لكي يكون هذا الحق واقعاً حياتياً عاماً ما أمكن، ولذا قال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) هل يتوقفون عند ذلك؟ (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:181]، ويتم ذلك:
أ. على المستوى الفكري، بالرد على الأفكار الباطلة من خلال الحجج والبراهين.
ب. على المستوى السياسي وإدارة شؤون الناس، من خلال العمل على استحكام العدالة الاجتماعية: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61] وفرض القانون، ومحاسبة الخارجين عليه والفاسدين.
جـ ـ على مستوى المحاكمات والفصل بين الخصومات، بإقامة العدل وبما أنزل الله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[ص:26] .. وهكذا على سائر المستويات.
ـ الأمر الثالث: المحافظة على سلامة الحق وبقائه خالياً من الباطل، وهو ما ورد في النهي الإلهي: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) [البقرة:42].
ـ ولأمير المؤمنين (ع) كلمة جميلة في بيان أسلوب البعض في إبعاد الآخرين عن الحق حيث قال: (فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ، ولَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ). وهذه هي الخلطة القاتلة التي تؤدي إلى وقوع الفتن بحسب وصف الإمام (ع) وتشخصيه.
ـ لو قيل مباشرة للمسلم أن هذا القرآن باطل، وهو من وضع النبي وتأليفه، لما صدّقهم، ولكن يُقال له هذا كتاب إلهي، عظيم المضمون، ألهم الله أفكاره الرئيسة للنبي، ثم قام النبي بصياغة ذلك من عنده، فإذا صدّقهم، قالوا له ولذا ترد بعض الملاحظات عليه، لأن النبي كان ابنَ بيئته، فهنا خطأ تاريخي، وهنا خطأ فلكي، وهنا تشريع خاص بزمانه، إلخ القائمة.
ـ وهناك أثر آخر خطير لإلباس الحق بالباطل، وهو تشويه صورة الحق مما يدفع الآخرين إلى عدم الميل إليه وإلى عدم الأخذ به. وهو ما أشار إليه الصادق(ع) كما في الخبر المعتبر عن أبي بصير حيث قال: (سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُول: رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً حَبَّبَنَا إِلَى النَّاسِ وَلَمْ يُبَغِّضْنَا إِلَيْهِمْ .أَمَا وَاللَّهِ لَوْ يَرْوُونَ مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَكَانُوا بِهِ أَعَزَّ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ بِشَيْ‏ءٍ، وَلَكِنْ أَحَدُهُمْ يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إِلَيْهَا عَشْراً).
ـ وما أكثر ما ننسبه إلى مدرسة أهل البيت(ع) ونشوّه به صورتهم، وهم براء منه.
ـ قضايا ننسبها إلى عقيدتهم وتاريخهم وسلوكياتهم وأدعيتهم وعبادتهم، وممارسات نأتي بها ونضيف إليها ما نشوّه به صورة مدرستهم العظيمة.
ـ والويل لمن يحتج ويعترض، لأنهم سيسلِّطون عليه سيف الإخراج من المذهب، والتقصير، والاتهام بالوقوف في وجه الشعائر المذهبية.
ـ ومن هنا نبّهَت الآية التالية إلى الخطأ الذي وقع فيه أهل الكتاب: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة:77].
ـ فالحق كان بأيديهم من خلال اتّباع ما جاء به أنبياؤهم من الوحي، ولكن المشكلة في الإضافات التدريجية الناشئة عن الأهواء، وتنامي الحب لبعض الأنبياء، مما أوصلهم إلى الغلو فيهم.. كما هو شأن النصارى.
ـ الأمر الرابع: عدم كتمان الحق. ففي تتمة الآية التي بدأنا بها العنوان الثالث، يقول تعالى: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:42]، لأن كتمانه يعني ضياع الحقيقة وظلم صاحبها.
ـ ومن فروع ذلك، أنك عندما تعرف الحق وتُطلب منك الشهادة أمام القاضي، لا تتهرب منها لأن الخصم من أرحامك أو أحبابك: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283].
ـ ولا تكذب فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء:135].
وأخيراً أقول: إن من مسؤوليات معرفة الحق والعمل به، أن لا يصدر عنك إلا ما يكون متناغماً مع الحق، فكونك على حق لا يُسوِّغ لك العدوان على الآخرين، ولو على مستوى الكلمة، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين (ع) في النص الذي نقله مجتزءً الشريف الرضي في نهج البلاغة، وأنقله كاملاً من كتاب " تمام نهج البلاغة " للسيد صادق الموسوي حيث قال: (كلامٌ له (عَلَيْهِ السَّلامُ) وقد سمعَ قومًا من أصحَابهِ يسبّونَ أهلَ الشامِ أيّام حرب صفين، فأرسلَ إليهم أنْ كُفّوا عمّا يبلغني عنكم. فأتَوه فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، ألسْنَا مُحقّين؟ قال (ع): بلى. قالوا: أليسُوا مُبْطلين؟ قال (ع): بلى. قالوا: فَلِم مَنعتَنا من شَتْمِهم؟ فقال (ع): إني أكْرهُ لكم أنْ تكونُوا سَبَّابِيْنَ شَتَّامِيْنَ لَعَّانِيْنَ تَشْتُمُونَ وَتَتَبَرَّءُون ولكنكم لو وَصَفْتم مَساوِئَ أعمَالِهم, وذكرتُم حالَهم وَسيرَتَهم كانَ أصوبَ في القَولِ وأبلغَ في العُذر، ولو قُلتُم مكانَ سبِّكُم ولعنِكُم إيَّاهُم وبراءَتِكُم مِنهم: (اللهُمَّ احْقِنْ دِماءَنا وَدِماءَهم، وأصْلِحْ ذاتَ بينِنَا وَبينِهم، واهْدِهم من ضَلالَتِهم، حتى يَعرفَ الحقَّ من جَهِلَه، وَيَرْعَوِي عن الغَيِّ والعُدْوَانِ مَن لَهِجَ بهِ، لكانَ هذا أَحَبَّ إليَّ، وَخَيْرًا لكم).