خطبة الجمعة 18 شوال 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: هل نزل حكم اللباس الشرعي للمرأة في القرآن؟


ـ حديثي في هذه الخطبة سيكون حول اللباس الشرعي للمرأة، ولن يكون حول فلسفة هذا التشريع والغاية منه، ولا حول تفاصيل المسائل الشرعية المتعلقة به، بل هو بيان لكيفية نزول هذا التشريع في القرآن الكريم، وذلك رداً على ما صار يدور مؤخراً ـ وبشكل مكثف ـ من كلام حول خلو القرآن من هكذا تشريع.
ـ بالطبع البعض يعبّر عن هذا التشريع بعنوان تشريع (الحجاب) وهو خطأ فادح، ويؤدي إلى حصول خلط في فهم الآيات والأحاديث، فالآية التي تحدثت عن الحجاب هي آية تخص نساء النبي حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا)[الأحزاب:53].
ـ وهذه الآية لا علاقة لها نهائياً بتكليف المرأة باللباس الشرعي، بل هي تخص النساء من أهل بيت النبي(ص) بما يشمل الزوجات والبنات لمزيد من تحصين بيت النبوة عن القيل والقال... ولم يرد في القرآن التعبير بالحجاب بخصوص لباس المرأة، وليس المطلوب منها أن تتعامل مع الرجال من وراء حجاب، بل المطلوب أن تلتزم باللباس الشرعي الذي تحدثت عنه آية أخرى.
ـ وعندما نقرأ حديثاً يقول مثلاً: (دخل فلان على فلانة من أهل بيت النبي قبل أن تنزل آية الحجاب)، فليس المراد قبل نزول حكم اللباس الشرعي للمرأة، بل الآية التي تلوتها قبل قليل والخاصة بنساء بيت النبوة.
ـ واللباس الشرعي للمرأة ليس تشريعاً خاصاً بشريعة نبينا محمد (ص)، ففي الشريعة الموسوية تشريع مماثل لذلك، فلو بحثت في الإنترنت ـ باللغة الإنجليزية ـ حول هذا الموضوع ستجد من أقوالهم في بيان فلسفة وجوب تغطية المرأة اليهودية لشعرها أنه جاء في التلمود: (شعر المرأة شيء مثير)، وفي بيان ذلك يقولون: (نحن نعتبر أن شعر المرأة من الأمور المثيرة للغريزة الجنسية عند الرجل، ولذا فإنه شيء تخُصُّه المرأة لزوجها).
ـ وفي كتاب (المرأة اليهودية في الأدب التوراتي) للحاخام الدكتور (مناحيم براير): (كان من عادة النساء اليهوديات الخروج علناً بغطاء الرأس والذي كان أحياناً يغطي الوجه بالكامل، ويترك عيناً واحدة) ثم ينقل المؤلف كلمة لأحد الأحبار القدماء: (ليس من شِيَم بنات إسرائيل الخروج برأس مكشوف، ولُعن الرجل الذي يترك شعر زوجته مرئياً).
ـ وحصل انقسام بين اليهود في المقدار الواجب تغطيته، فمنهم من اكتفى بتغطية الشعر بحيث تربط المرأة الخمار من الخلف، ومنهم من التزم بضرورة التغطية الكاملة بما يشمل الرقبة والأذنين والصدر.
ـ ولم يأت السيد المسيح (ع) بشريعة ناسخة للشريعة الموسوية إلا في موارد محدودة جداً، ولذا استمرت المرأة المسيحية المتدينة في تغطية رأسها، ونجد في كتاب (العهد الجديد) في رسالة بولس إلى أهل كورنثوس: (وإذا كانت المرأة لا تغطي رأسها، فأولى بها أن تقص شعرها، ولكن إذا كان من العار على المرأة أن تقص شعرها أو تحلقه، فعليها أن تغطي رأسها) أي كما أن الحلق عار عليها، فإن كشفها لشعرها عار أيضاً.
ـ وأما في الإسلام فيبدو أن مسألة الستر الشرعي أخذت حكماً تدريجياً تماماً كما في تحريم الخمر.. فلم يكن هناك تشريع إلزامي حول لباس المرأة، ثم نزلت الآية 59 من سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
ـ ولعل نزولها ارتبط بحوادث معينة كما في بعض الأحاديث، حيث كان يتم التحرش بالمسلمات من قبل بعض المنافقين أو من الذين في قلوبهم مرض، فنزلت الآية لتوجّه المسلمات إلى ضرورة مراعاة المزيد من الستر في الثياب، ليعرفوا أن هذه امرأة مسلمة عفيفة، وهو الذي عبّرت عنه بقوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) والجلباب مردد بين ما يشبه العباءة المتعارفة للنساء اليوم أو الثوب الواسع الذي يغطي الجسد.
ـ فهذا الإجراء من المرأة يقلل من احتمالات التحرش بها، لما يعرفه هؤلاء المتحرشون من صلابة الإسلام في مواجهة هذا العبث، ونتذكر هنا ما جرى في سوق بني قينقاع قبل ذلك بثلاث سنوات حيث تحرش أحد اليهود بامرأة مسلمة، فربط طرف ثوبها بشوكة، فلما تحركت سقط عنها الرداء، فقام مسلم وقتل اليهودي، ثم قُتل المسلم، وأدى ذلك إلى إعلان الحرب ومن ثم إجلاء بني قينقاع من المدينة.
ـ هذا لا يعني أن الإسلام يسمح بأن يعبث هؤلاء بغير المسلمات، ولكن الآية جاءت لمعالجة وضع المرأة المسلمة، وبصورة توجيهية لا نجد فيها إلزاماً وتشديداً لاسيما بلحاظ قوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
ـ إلى هنا لا يوجد تشريع إلزامي حول لباس المرأة، ولكن بعد نحو عام على الأقل، أي في السنة السادسة للهجرة، وقيل في السنة الثامنة، نزلت سورة النور، واشتملت على مجموعة من التشريعات والآداب الاجتماعية، ومن بينها قوله: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ...) [النور:30-31].
ـ هنا بيان لتكليف الرجل، وتكليف المرأة على نحو الأمر والإلزام، حيث تم الربط بين تصرف الطرفين تجاه بعضهما البعض، وبين هيأة لباس المرأة.
ـ فالرجل مكلف وجوباً بغض البصر والالتزام بالنكاح الشرعي.
ـ وأما المرأة فهي مكلفة وجوباً:
1ـ بغض البصر
2ـ الالتزام بالنكاح الشرعي
3ـ عدم إبداء ما يعتبر زينة، سواء من الجسد كالذراع والساق، أو مما ترتديه كزينة من قبيل الخلخال والأساور ـ مع استثناء ما ظهر منها ـ وهناك نقاش علمي حول حدود ذلك وتفاصيله، ولن نخوض فيه.
4ـ إلقاء خمار الرأس على الجيب، فلا يُكتفى بتغطية الشعر دون الرقبة والأذنين وفتحة الصدر من الثياب.
ـ ولكي نفهم هذه النقطة الأخيرة بالتحديد نقول: كانت المرأة المسلمة قبل ذلك تغطي أحياناً بعضاً من رأسها، كنوع من العادات والتقاليد، أو مراعاة للجو، أو لطبيعة العمل الذي تمارسه، وكانت ثيابها هي الثياب الدارجة في الحجاز.
ـ وكانت تغطية الرأس وفق تلك العادات تقتصر على تغطية الشعر، كما عرفنا ذلك عن بعض اليهود، قال الزمخشري في تفسيره: (كانت جيوبهن واسعة) والجيب عبارة عن فتحة الثوب عند الصدر التي منها يدخل الرأس (تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمُر من ورائهن فتبقى مكشوفة).
ـ وبالتالي مع نزول هذه الآية، بدأ التشريع الإلزامي على المرأة بارتداء غطاء الرأس بالصورة التي ذكرناها، وعدم جواز كشفه، أو كشف بعضٍ منه لغير الموارد التي ذكرتها الآية، وهي الزوج والأب والأخ... إلخ.
ـ وكانت الاستجابة سريعة من قبل نساء الأنصار، فعن أم المؤمنين عائشة: (ما رأيت نساء خيراً من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كلُّ واحدةٍ منهن إلى مِرطها) المِرْطُ : كساءٌ يُؤتَزر به وتتلفَّعُ به المرأة (فصدعت منه صدعة) أي قطعت منه قطعة (فاختمرن، فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان)، لأن تلك المِروط كانت منسوجة من الشعر الأسود، وعادة يكون من شعر الماعز، ولذا أشبهت الأغطيةُ الغربانَ السود.
ـ هذه هي قصة تشريع الستر الشرعي للمرأة في الإسلام، حيث تدرج القرآن في ذلك، فوجّه ونصح المرأة المسلمة في الآية 59 سورة الأحزاب إلى مزيد من الاحتشام في لباسها، وذلك لتحقيق المزيد من التحصين لها من إساءات المتحرشين، ثم أنزل الآية الحادية والثلاثين من سورة النور آمراً المرأة المسلمة بالالتزام باللباس الذي يُخفي مواضع الزينة من جسدها ومما ترتديه من تلك الزينة، إلا ما استثني، علاوة على لزوم تغطية الرأس ليشمل ذلك الغطاء رقبتها وأذنيها وما يظهر من أعلى صدرها، كل ذلك مقروناً بأمر الرجل والمرأة بغض البصر والالتزام بالنكاح الشرعي في إطار العلاقة بينهما، وأما ما يثيره البعض من أن القرآن الكريم لم يتعرض لحكم اللباس الشرعي للمرأة، أو أن غطاء الرأس مجرد عادة من العادات الجاهلية فمجرد ادعاءات قامت الأدلة على خلافها.