خطبة الجمعة 11 شوال 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية : الإلحاد في أسماء الله


ـ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة:٦٤].
ـ قدّمت كل رسالة سماوية صورةً عن الله سبحانه، من خلال ذكر صفاته، وبيان ما يجب على المؤمنين بتلك الرسالة أن يؤمنوا به في ما له علاقة بالذات الإلهية.
ـ فالإيمان بوحدانية الله وأنه الأول والآخر والخالق والغني والرزاق والعزيز والقادر على كل شيء وغير ذلك من الصفات هي من أسس الإيمان بتلك الرسالات.
ـ إلا أن بعض أتباع تلك الديانات السماوية قاموا عبر الزمن بتشويه صورة الله عزوجل في أذهان المتدينين، وباسم الدين، ومن خلال النص الديني الموضوع أو المحرف.
ـ لاحظ في النص التالي كمثال، كيف تم تقديم الله بصورة الذي يجهل الغيب ويندم على ما قدّمت يداه وينسى!
ـ ففي سفر التكوين في ضمن الحديث عن قصة نوح (ع): (ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض. وأن كلَّ تصورِ أفكارِ قلبِه إنما هي شريرة، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته).
ـ فكان الطوفان، وتم إغراق الناس ومحوهم من الأرض إلا نوحاً ومن كان معه، ثم أخذ على نفسه عهداً ألا يهلك الناس كما حصل في الطوفان، ولكي لا ينسى عهده صنع قوس قزح: (فيكون متى أنشر سحاباً على الأرض وتظهر القوس في السحاب, أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم فلا تكون أيضا المياه طوفاناً)!
ـ وتم تقديم تصورات ونسبة صفات وأفعال قبيحة إلى الله تعالى في كتب بني إسرائيل، وكلها من جعلهم وتحريفاتهم، وليس هذا مجال استقصائها. وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من تحريف اليهود للتصورات المقدمة عن الله في رسالتهم، ومن بينها الآية التي بدأت بها حديثي.
ـ وقريب من مضمون تلك الآية قوله: (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)[آل عمران:١٨١].
ـ وقد استبعد بعض المفسرين كابن عاشور أن يكون هذا جزء من تعاليمهم، بل أنها قيلت تهكماً بإله المسلمين حين هاجر المسلمون ووفدوا المدينة في حالة فقر، أو مِن قِبل شخص يهودي معين كما في بعض الروايات، وبرر ذلك بكون: (اليهود أهل إيمان ودين، فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذم).
ـ ولكن الواقع أن ما حكاه القرآن موجود بنصه في كتبهم، فعلى موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية فصل من كتاب (ذرية إبراهيم ـ مقدمة عن اليهودية للمسلمين) تأليف: روبن فايرستون يقول فيه الكاتب بعد ذكر آية يد الله مغلولة: (ورد في مقطع من سفر المراثي (مراثي إرميا) (3 :2) في التوراة أن الله رد يمينه في حضور العدو..... إن تفسـير هذا المقطـع في الكتاب اليهـودي من المدراش المسمى مراثي رباه (آخِر 2: 6) يقول: غُـلَّت يمينُ الله).
ـ ثم يذكر نصاً آخر في كتاب حانوخ: (قال لي الحاخام إسماعيل: تعال معي وسأريك يُمنى الموجود المطلق ـ أحد الأسماء اليهودية لله ـ التي غُلت وراءه وذلك بسبب تدمير الهيكل. إن التفسير الأول يَفهم غَل اليد الإلهية كمجاز للرفض الإلهي لحماية القدس بسبب ذنوبها. والتفسير الثاني يتجاهل الاستعارة ويدّعي بكل صراحة أن يد الله عاجزة، أو لا فائدة فيها، بسبب خراب هيكل القدس).
ـ بالطبع حاول المؤلف أن يقول أن ليس كل اليهود يؤمنون بذلك، وأن الأكثرية تعتبر أن العبارة مجازية، ولكن على كل حال هو اعتراف بوجود هذا النص في كتبهم.
ـ وما يمكن أن نقوله هنا هو أن الله سبحانه لا يجسد في تصوّر اليهود تلك الذات الجامعة لكل صفات الجلال والجمال والكمال والعلم والقوّة والقدرة اللامتناهية، ويتصورونه كما يتصورون أي كائن آخر محدود، وما يلزم عن المحدودية من نواقص وسلبيات... وجرَّهم قولُهم بأن يد الله مغلولة في رد الأعداء عنهم إلى وصفه بأن يده مغلولة عن العطاء أيضاً إذ نجد الفقر بين الناس.
ـ وهكذا نجد القرآن يتحدث عن تحريف التصور المقدم للنصارى عن الله، ولكن المسألة تتركز عندهم حول عقيدتهم في المسيح: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً)[النساء:171].
ـ وكما تم التلاعب في التصور المقدم عن الذات الإلهية عند أتباع تلك الرسالات السماوية، تم ذلك عندنا.
ـ وهل كانت المشكلة في عدم حفظ القرآن الكريم من التحريف والنقص والزيادة؟ أبداً.
ـ هل كان السبب قلة الآيات القرآنية التي قدمت لنا صفات الله عزوجل؟ أبداً.
ـ قال عز اسمه وهو يقدم لنا قاعدة عامة في هذا المجال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف:١٨٠].
ـ ومعنى يلحدون أي أنهم يميلون ويبتعدون عن الحقيقة والصواب وجادة الحق، فينسبون لله بعض صفات مخلوقاته من الخواص المادية، أو الصفات القبيحة، أو ينسبون إلى غير الله ما يختص به سبحانه وتعالى.
ـ فأين المشكلة إذاً؟
ـ إنها تتلخص في ما نقل الفخر الرازي في تفسيره عن أحد أساتذته بأنه قال: (قد شاهدتُ جماعةً من مقلِّدة الفقهاء، قرأتُ عليهم آياتٍ كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إليَّ كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سَلفِنا ورَدت على خلافها؟ ولو تأملتَ حقَّ التأمل وجدتَ هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا). هذه هي المشكلة الكبرى.
ـ وقد مر علينا في التاريخ الإسلامي من علماء المسلمين ـ بل وما زالوا ـ مَن هم على شاكلة أحبار اليهود والنصارى من أدعياء العلم، والمتلاعبين فيه، والذين باعوا آخرتَهم بدنياهم، فوضعوا الحديث، وتلاعبوا في تفسير القرآن، وشوَّهوا العقائد والمفاهيم.. وإلى جانبهم الفئة التي أخذَت عنهم، وقدَّست كلامهم، وقدَّمت الأحاديث التي وضعوها أو رووها على كلام الله عزوجل. وقد انبرى أئمتنا (ع) ـ وبكل حزم ـ لمواجهة الأفّاكين والجهلة والأدعياء ممن كانوا ينتسبون إلى كافة المدارس الإسلامية، كما واجهوا وتبرأوا من كل من ادعى الانتساب إلى مدرستهم وألحَد ومال وزاغ عن جادة القرآن في عقيدة التوحيد، وادّعى على الله ما ليس بحق، أو ادّعى لغير الله ما كان لله وحده. والنصوص الصحيحة والصريحة في ذلك كثيرة. وهكذا ـ وعلى نهج أئمتنا ـ كان بعضُ أصحابِهم وبعضُ علمائنا الكبار، كيونس بن عبدالرحمن، والفضلِ بن شاذان، وأحمدَ بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، الذين واجهوا موجات الإلحاد في أسماء الله وصفاته قولاً وعملاً وألَّفوا الكتب في الرد عليهم وفضْحهم، كما عمل الأشعري القمي في القرن الثالث الهجري على طردهم وطرد المروّجين لهم ولكتبهم ولمقولاتهم من الحاضرة العلمية في مدينة قم. وقد دفع هؤلاء المخلصون بأجمعهم ثمناً باهضاً، فاتُّهِموا زوراً، وحوربوا بشدّة، وهُتِكَت حُرَمُهم، ولكنهم ما بدّلوا وما تراجعوا.
واليوم ـ وللأسف الشديد ـ نجد صمتاً شبه طاغ ـ إلا ما ندر ـ في مواجهة الموجات الجديدة من هذا الانحراف، والتي اعتبرها القرآن إلحاداً في أسماء الله، حتى بات التجرؤ على الذات الإلهية، ونسبة ما لله لغير الله، أمراً يتنافس فيه جهلةُ الخطباء والشعراء والرواديد وأضرابُهم. وقد قال النبي الأكرم (ص) في بيان مسؤولية العلماء: (إذا ظهرت البدع في أمتي، فليُظهر العالمُ علمَه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله).
ختاما لا أستطيع أن أتجاوز الجريمة التي ارتكبت بالأمس بحق الأبرياء في مدينة نيس الفرنسية وهو شيء مؤلم جدا أن تشاهد الجثث علآ قارعة الطريق ولكن كما قالت مرشحة الرئاسة الأمريكية السيدة هيلاري كلينتون (دعونا نتذكر هنا أن الذين نقاتلهم اليوم موّلناهم قبل عشرين سنة).