خطبة الجمعة 19 رمضان 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مثلُنا علي (ع) ومثَلُهم الحَجاج


(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الممتحنة:٦].
ـ للمثُل العليا التي يقدِّمها الدين، أو المذهب، أو الموروث التاريخي، دور مهم في صياغة السلوك الإنساني للمنتمين إلى ذلك الدين أو المذهب أو المجتمع.
ـ لذا حرَص القرآن الكريم على أن يقدِّم نماذج عديدة عبر التأريخ لأفراد يستحقون أن يكونوا أسوة للأجيال المؤمنة.. تُسترجَع تجاربُهم، و يُهتدى بهداهُم.
ـ ففي الآية الرابعة من سورة الممتحَنة: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ).. عمق وامتداد عبر التأريخ إلى ما قبل ألفي سنة قبل ميلاد السيد المسيح (ع).. أي أكثر من ٢٦٠٠ سنة من حين نزول هذه الآية، وتقديمهم كنموذج للتأسي بهم من قبل المؤمنين برسالة نبينا الأكرم محمد (ص).
ـ ومن هنا يأتي حرصنا ـ في مدرسة أهل البيت (ع) ـ على استرجاع سيرة قادتنا وأئمتنا (ع)، وعلى رأسهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في ذكريات مواليدهم ووفياتهم، وهو ما يأتي تناغماً مع وصاياهم بإحياء أمرهم.. (أحيوا أمرنا. رحم الله مَن أحيا أمرنا).
وفي سيرة علي (ع) نجد المشاهد التالية:
1) قال (ع) كما في الخطبة 14 من نهج البلاغة، وهو يوصي أنصاره في حرب الجمل بعد أن جَهِد ليصرف القوم عن القتال: (لا تُقاتلوهم حتّى يبدؤوكم، فإنّكم ـ بحمد الله ـ على حُجّة، وتركُكُم إيّاهم حتّى يَبدؤوكم حجّةٌ أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة) أي هزيمة العدو (بإذن الله، فلا تقتلوا مُدْبراً، ولا تُصيبوا مُعْوِراً، ولا تُجهِزوا على جريح، ولا تَهيجُوا النساء بأذى).
2) وفي الخطبة 27 وهو يتحدث عن غارات رجال معاوية على الأنبار: (ولقد بلغنى أن الرجل منهم كان يدخل على المرأه المسلمة والأخرى المعاهَده فينتزعَ حِجلَها و قُلُبَها وقلائدَها ورُعُثَها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام... فلو أن امرء مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً).
3) وفي الخطبة 206 من نهج البلاغة تحت عنوان: (ومن كلام له (ع) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين: إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالَهم وذكرتم حالَهم كان أصوبَ في القول وأبلغَ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بينِنا وبينِهم، واهدِهم من ضلالتهم حتى يَعرفَ الحقَّ مَن جَهله ويرعوي عن الغي والعدوان مَن لَهِج به).
4) وفي الطريق إلى صفين احتل جيش معاوية مشرعة الفرات، ومنعوا جيش الإمام من الشرب منه، فأرسل قوة عسكرية انتزعت المشرعة منهم، فقال بعض أنصاره كما جاء في كتاب صفين لنصر بن مزاحم: (والله لا نَسقيهم. فأرسل إلينا علي: خذوا من الماء حاجتَكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلوا بينهم وبين الماء؛ فإن الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم).
ـ هذه الصور تمثّل مدرسة حيّة لأتباع علي (ع) عبر التأريخ.. هذه هي أهمية الأسوة.. وأهمية استحضار المناسبات المتعلِّقة بهؤلاء القدوة.. هي مدرسة بناء للشخصية على هَدي هؤلاء العظماء من أمثال علي(ع).
ـ وفي المقابل تجد أن المدرسة التي تخرّج تكفيريي هذا العصر تحاول أن تسترجع سيرة شخصيات من أمثال والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي.. الحجاج بكل تاريخه الأسود.. لماذا؟ ونكاية بمن؟! المسألة واضحة.
ـ حملة واسعة على الإنترنت ومن خلال المؤلفات والمحاضرات ومقاطع الفيديو التي تركز على شخصية الحجاج، في سعي منها لتلميع هذه الشخصية التي لا تطهّر سيرتَها الدموية مياهُ المحيطات.
ـ كتب أحدُهم مقالاً تحت عنوان (الحجاج بن يوسف.. للحقيقة ألف وجه) قال فيها: (احتل الحجاج بن يوسف الثقفي مكانة متميزة بين أعلام الإسلام... خرج من سواد الناس إلى الصدارة بين الرجال وصانعي التاريخ بملَكاته الفردية ومواهبه الفذة في القيادة والإدارة... ولا يختلف أحد في أنه اتبع أسلوباً حازماً مبالغاً فيه، وأسرف في قتل الخارجين على الدولة، وهو الأمر الذي أدانه عليه أكثر المؤرخين، ولكن هذه السياسة هي التي أدَّت إلى استقرار الأمن في مناطق الفتن والقلاقل التي عجز الولاة من قبله عن التعامل معها).
ـ وعلى نفس المنوال: (الحجاج بن يوسف الثقفي المُفترى عليه) (من أروع خطب الحجاج بن يوسف الثقفي في أهل العراق).. (تفسير عظمة الحجاج بن يوسف الثقفي).. إلخ هذه العناوين.. والكِتاب يُقرأ من عنوانه.
ـ في سنن الترمذي عن هشام بن حسان قال: (أحصَوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل) . في كتاب دلائل النبوة للبيهقي عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز: (لو جاءت كلُّ أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم). وفي تاريخ ابن كثير في أحداث سنة 73هـ: (فيها كان مقتل عبد الله بن الزبير "رض" على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي المبير قبحه الله وأخزاه... فلما استهلت هذه السنة استهلت وأهلُ الشام محاصِرون أهلَ مكة، وقد نصَب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصُرَ أهلَها حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك... فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقاً كثيراً، وكان معه خمسُ مجانيق فألحّ عليها بالرمي من كل مكان... وجعلت الحجارة تقع في الكعبة).
ـ قال الذهبي: (وكان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء) ثم ذكر نماذج من جرائمه وقال: (نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان).
ـ هذه جرائم.. وتماثلها جرائم التكفيريين خريجي المدرسة التي تعمل بجد واجتهاد للتأسي بالحجاج الثقفي.
ـ هؤلاء عندما يكون الحجاج أسوة لهم لن تتطلع إلى شيء سوى إلى سلوكهم الإجرامي الوحشي.. فالحجاج بالنسبة إليهم مدرسة وأسوة.
ـ عندما بدأت القوات العراقية الحكومية والشعبية بعملياتها العسكرية لتحرير أراضيها من سيطرة الإرهابيين التكفيريين، ضجَّت منظمة التعاون الإسلامي لما أسمته (قتل وتهجير الأهالي في العملية العسكرية التي يشنها الجيش والميليشيات).
ـ وبعد أسبوعين فقط، حين تم تحرير الأرض وطرد التكفيريين المحتلين وأنصارهم من البعثيين، رحّبت المنظمة (بالانتصار الذي تحقق، معتبرة ذلك خطوة مهمة في طريق القضاء على العناصر الإرهابية).
ـ وصارت وسائل الإعلام العربية مجبَرة على نشر خبر وصور النساء والفتيات الإيزديات المحرَّرات على يد هذه القوات، بعد كل معاناة السبي على يد التكفيريين، لتؤكد على الفارق بين مدرسة علي ومدرسة الحجاج.
ـ إننا لا نتطلع من أتباع مدرسة علي (ع) إلا أن يكونوا على هداه في الالتزام بالمباديء الأخلاقية الإنسانية النابعة من الفطرة السليمة، وبالتعاليم الإسلامية التي تجد في العفو والرحمة والتسامح أسُساً لا حياد عنها، لأن علياً (ع) كان إمامَ العفوِ والرحمةِ والتسامحِ، حتى أنه قال وهو يودّع الدنيا على إثر الضربة الغادرة التي تلقاها على يد ابن ملجم: (إنْ أبْقَ فأنا وليّ دمي، وإنْ أفْنَ فالفناء ميعادي، وإنْ أعفُ فالعفو لي قربة ولكم حسنة، فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يَغفرَ الله لكم). وقال: (إن أردتم القصاص فضربةً بضربة ولا تمثّلوا بالرجل).