خطبة الجمعة 12 رمضان 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: إرهاب أم إقامة حدود

(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) (الأنبياء:٧٤)
ـ ذكرت في أكثر من مناسبة أن ارتدادات الأعمال الإرهابية الإجرامية التي يقوم بها التكفيريون لا تقف عند حد البعد الأمني والموت والدمار المادي، بل تتعدى ذلك لتؤثر في البعد الإيماني والفكري أيضاً.
ـ فمع كل جريمة يرتكبها هؤلاء الإرهابيون تبرز التساؤلات والتشكيكات من قبل المهتمين، ومن قبل الملحدين المتربصين بالحالة الإسلامية، ومن قبل عامة الناس، حول بعض المفردات الإيمانية والتشريعية في الإسلام.
ـ هذه التساؤلات والتشكيكات تؤثر من خلال طرحها على شريحة الشباب سلبياً، وإن لم يتم التصدي لها وقعت هذه الشريحة ضحية تراكم تلك الشبهات، لتصل بهم في نهاية المطاف إلى نتائج فكرية خطيرة.
ـ آخر الأحداث البارزة في هذا الإطار على الصعيد الدولي: الهجوم على ملهى خاص بالمنحرفين جنسياً بمدينة أورلاندو الأمريكية.
ـ وإن كنت قد ذكرت في خطبة سابقة أن علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية من أجل تثبيت وجهها القبيح، إلا أن احترام خطبة الجمعة والسامعين من جهة، وللملاحظة التي أبداها بعض العلماء بقبح اشتقاق اسم هذه الفاحشة من اسم نبي كريم من جهة أخرى، كلا السببين يدفعانني إلى الحديث عنها بالكناية.
ـ والشبهة التي طُرحت عقيب وقوع الجريمة مباشرة هي: أليست هذه الجريمة هي حصاد التشريع الإسلامي المتشدد بخصوص عقوبة مرتكبي هذه الفاحشة؟
ـ فالشاب الملتزم بالشريعة الإسلامية يدرس في الفقه أن العقوبة هنا تصل إلى حد الإحراق مثلاً.. وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية عامة.. وأن الموت في طريق أداء هذه المسؤولية الشرعية يعد قتلاً في سبيل الله، وتبلغ مرتبة الشهادة.. وبالتالي ما فعله هذا الشاب عبارة عن تنفيذ لحكم الشرع بأولئك المنحرفين.
ـ وأسجل هنا ملاحظاتي رداً على الشبهة السابقة:
١) لاشك ولا ترديد في أن ممارسة هذه الفاحشة من كبائر الذنوب، وقد عاقب الله بالدمار تلك القرية التي كانت تستحل ذلك لمّا عاندت نبيَّها واستكبرت. قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ) (هود:٨٣).
٢) مرتكب هذه الفاحشة يستحق عقوبة الحد الشرعي وفق التفصيل الموجود في فتاوى الفقهاء.
٣) ولكن، مرتكب هذه الفاحشة الذي يقام عليه الحد يجب أن تثبت فعلته بطريقة لا شبهة فيها، ووفق شروط مشددة يندر تحققها على أرض الواقع.
ـ فعند إخواننا أهل السنة نقرأ الفتوى التالية التي تنص على أن ثبوت هذه الفاحشة لا تتم (إلا بإقرار لا يرجع عنه صاحبه، أو بشهادة أربعة عدول، يصرحون بأنهم شاهدوا "دخول فرج أحد الرجلين في دبر الآخر، كدخول المرود في المكحلة" ولا يشك أحد منهم في ذلك، ولا يرجع عمَّا شهد به. فإن لم يكن أحد الشهود عدلاً، أو لم تكن الرؤية التي أخبر عنها دقيقة، أو رجع عن شهادته، فإنهم يُحدّون حد القذف. وعلى أية حال فإقامة حد "اللواط" إنما هو من اختصاص السلطان أو نائبه، ولا يجوز لآحاد الناس قتل من فعل ذلك، ومن قتله من غير أن يثبت عليه كان مستحقاً للقتل قصاصاً).
ـ وعند الشيعة نجد النص التالي عند السيد الخوئي وبصورة أكثر تشديداً حيث قال: (ويثبت بشهادة أربعة رجال وبالإقرار أربع مرّات، ولا يثبت بأقلّ من ذلك. ويعتبر في المقرّ : العقل ، والاختيار، والحرّيّة).
ـ وبالتالي مَن مِن الذين كانوا في الملهى ذهب إلى الحاكم الشرعي وأقر بارتكابه الفاحشة كي نقول أنه قد ثبت بحقه الحد؟
ـ وإن لم يكن بالإقرار، فمَن هم الشهود العدول الأربعة الذين شاهدوا ارتكاب الفاحشة بالصورة التي ذكرناها من قبل الحضور بأجمعهم، ثم شهدوا عند الحاكم الشرعي بذلك بالصورة التي جاءت في الفتوى؟
ـ إذاً، وبعيداً عن الدخول في تفاصيل طبيعة الحد الذي يقام عليهم، يجب أن ندرك أن إثبات وقوع هذا الشيء نادر الحدوث جداً.. ومن يخطيء ويذنب، بإمكانه أن يتوب مع الله توبة حقيقية، وهذه التوبة السرية أفضل من الإقرار على النفس أمام الحاكم الشرعي.
ـ في الحديث الصحيح أن رجلاً أقر على نفسه بارتكاب هذه الفاحشة أمام علي(ع) وهو في جمع من الملأ، فقال له الإمام: (يا هذا، امض إلى منزلك لعلّ مراراً هاج بك) أي لربما حصلت لك لوثة عقلية أو خلل نفسي جعلك تتوهم ذلك.. فلمّا كان من غد عاد الرجل وأقر من جديد وردّه الإمام بنفس الحجة.. إلخ الخبر.
ـ فالإسلام لا يبحث عن أفراد يقيم عليهم الحد، بل يريد للمجتمع أن ينصلح، والأولوية أن يصلح الناس أحوالهم، فإن بلغت الأمور مستوىً يستدعي إقامة الحد من خلال التجاهر بالفاحشة بتلك الصورة التي يشاهدها عدول أربعة، عندها أصبحت إقامة الحد مسألة لا مفر منها، ولكن بشرط أن تتم من قبل الحاكم الشرعي ووفق ضوابط معينة، لا بالأعمال الفردية وبالطريقة العشوائية وبالأساليب الإجرامية.
٤) الفوضى والقتل الجماعي ليس من الإسلام بشيء. هناك قوانين شرعية ومحاكمات وشروط مشددة في القضاة والشهود، والمحاكمات يجب أن تكون شفافة، والحدود تُدرأ بالشبهات... إلخ.
إن الأساليبَ الإجرامية التي يرتكبها التكفيريون من خلال القتل الجماعي والأعمال الإرهابية بحق أهل المنكرات بحجة الدفاع عن دين الله وتطبيق شرعه وتطهير الأرض من الفواحش، أساليبٌ لا تخدم الرسالة الإسلامية ولا الدعوة إلى الإسلام أبداً، ولا تحقق شيئاً في اتجاه القضاء على المنكرات والفواحش، وليست من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشيء، وكل ما يترتب عليها هو المزيد من التأكيد على الصورة المشوَّهة التي تعمل بعض الأطراف من داخل المجتمعات المسلمة ومن خارجها على تقديمها على أنها صورة الإسلام، والإسلام لا يدعو إلى الفوضى في تطبيق العدالة القانونية وتطبيق نظام العقوبات، بل هو يقنّن ذلك النظام ضمن ضوابط وتشريعات مشددة، ومن خلال قنوات محددة تستدعي في الحاكم الشرعي أن يكون على مستوى عالٍ من العلم والتأهيل والتقوى.. كما يَبقى المتهمُ بريئاً ما لم تصل الأدلة مستوىً عالٍ من الإثبات تنفي من خلالها أي شبهة في البين.