خطبة الجمعة 27 شعبان 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: رحلة مع تشريع الصيام في القرآن


ـ قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:185].
ـ في سورة البقرة خمس آيات تتحدث عن صيام شهر رمضان.. وفي هذه الآيات عدة معطيات، من بينها:
1) توقيت الصيام في خصوص شهر رمضان دون سائر الأشهر، وربط هذا الشهر بإنزال القرآن الكريم، وهنا عدة احتمالات ـ بحسب العلماء ـ في فهم المراد من إنزاله في هذا الشهر، ومن بينها:
ـ الاحتمال الأول: اقتران إنزال الآيات الأولى من القرآن بالبعثة، وهذا يعني أن البعثة النبوية كانت في ليلة القدر من شهر رمضان، وليس في السابع والعشرين من شهر رجب.
ـ الاحتمال الثاني: لا اقتران بين الأمرين، فالبعثة ـ بمعنى تكليف النبي(ص) بالرسالة ـ كانت في السابع والعشرين من شهر رجب، ثم بدأ إنزال القرآن الكريم في ليلة القدر من شهر رمضان.
ـ الاحتمال الثالث: أن الله أنزل حقيقة القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان، وبحسب العلامة الطباطبائي: (لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يُقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج)، ثم في شهر رجب من السنة اللاحقة كُلِّف النبي بالرسالة، وأُنزلت عليه الآيات الأولى من القرآن.
ـ هذا الربط بين شهر رمضان وبين إنزال القرآن جاء لبيان اكتساب الشهر أهميته من خلال ذلك، أي أن القرآن أعطى الأهمية لهذا الشهر، ولربما من هنا جاء تشريع الصيام لاحقاً في هذا الشهر دون سائر الشهور.
ـ ثم وحيث ذُكر القرآن في الآية، كُرِّر عنوان الهداية مرتين: (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) وفي هذا إيحاء بأنه الله يريد لهذا الشهر أن يكون شهر هداية للناس انطلاقاً من القرآن الكريم، وهذا يستلزم:
أـ الاهتمام بتلاوة كتاب الله، وخَتْمه في هذا الشهر ولو مرة واحدة. وقد وردت أحاديث عدة في الحث على ذلك، ومنها ما عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: (من قرأ فى شهر رمضان آية من كتاب الله، كان كمن ختم القرآن فى غيره من الشهور).
ب ـ التدبر في آيات القرآن والاطلاع على معانيها ومفاهيمها، لأن الهداية لا تتحقق من خلال التلاوة فقط.. ثم تعرض نفسك على القرآن لترى إلى أي مدى تلتقي في إيمانك وعبادتك وأخلاقك وعملك مع صورة الإنسان المؤمن المتقي كما قدّمها القرآن، والتي يستحق من خلالها الجنة، ويتّقي من خلالها عذاب النار.
ج ـ الطلب من الله تعالى أن يفتح لك أبواب الهداية من خلال القرآن، وأن يشرح قلبك، وأن يجعل القرآن هو المرجع الفيصل في ما اختلف فيه الناس، لأن فيه الفرقان بين الحق والباطل.
دـ وكلما مررت بآية فيها ذكر لنعيم، سألت الله منه، وكلما مررت على آية فيها ذكر لعذاب، تعوّذت بالله منه.
هـ ـ التسليم والتصديق بآياته وإن غَمُض علينا شيء منها، وأن لا نجعل جهلنا لشيء منها سبباً للطعن في القرآن. وكما في دعاء ختم القرآن للإمام زين العابدين(ع) في الصحيفة السجادية حيث قال: (فَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَرْعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَيَدِينُ لَكَ بِاعْتِقَادِ التَّسْلِيْمِ لِمُحْكَمِ آياتِهِ، وَيَفْزَعُ إلى الإِقْرَارِ بِمُتَشَابِهِهِ وَمُوضَحَاتِ بَيِّناتِهِ.. وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَنـَّهُ مِنْ عِنْدِكَ حَتَّى لاَ يُعَارِضَنَا الشَّكُّ فِي تَصْدِيقِهِ وَلاَ يَخْتَلِجَنَا الزَّيْغُ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِهِ). وما أكثر شياطين الإنس الذين يسعون اليوم لتشكيك شبابنا بمصداقية كتاب الله، مصدراً وتاريخاً ومضموناً.
2) يريد الله للصيام أن يعيننا على غرائزنا التي تدفعنا في كثير من الأحيان إلى ارتكاب المعاصي، فالإنسان يقع تحت ضغط مثلث: الغرائز والشهوات ـ الملذات الخارجية ـ وساوس الشيطان. وهذا الأخير يقوم بدور السمسار (التزيين والإغراء) بين الغرائز والملذات الخارجية.
ـ وبالتالي نحن ممنوعون عن عدة أمور خلال ساعات نهار شهر رمضان، ولكن عمدة الأمر غريزتان مرتبطتان بالفرْج والبطن.. أي الجنس والأكل والشرب. من أقوى الغرائز التي تدفع الإنسان لارتكاب المعصية.
ـ لاحظ الآية [187] : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ) هذا بخصوص الغريزة الجنسية، ثم: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
ـ ومن هنا نفهم لماذا قال الباقر(ع) فيما روي عنه: (ما مِن عبادةٍ أفضل من عفة بطنٍ وفرج)... فهل نحقق هذه الغاية ـ فعلاً ـ في شهر رمضان؟
ـ أما بالنسبة إلى الطعام والشراب، فعند رفع أذان المغرب تشهد موائدنا حالة أشبه ما تكون بالانتقام من المنع عنهما.. مبالغة في التنوع، وإسراف في الكم، ونهم في التناول، واستمرار في التملّي إلى قبيل أذان الفجر.
ـ فكيف يرجو الصائم بعد هذا أن يحقق الصيام في شهر رمضان غاية مهمة من غاياته؟
ـ وهكذا الأمر بالنسبة إلى ما له علاقة بالغريزة الجنسية.. حيث يدمّر الصائم الرصيد القليل من العفة والحصانة وضبط النفس التي حققهما خلال سويعات النهار، عند الإقبال على شاشات التلفزة مما يحتوي من مثيرات الغريزة ما لا يُحصى.
ـ والمحصلة في النهاية ستؤثر على الغاية المنشودة من تشريع الصيام كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
ـ لقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن تكون له الإرادة القوية التي يوجهها في الخير والعمل الصالح، والتي يتغلب من خلالها على نوازع الشر والمعصية.. وشهر رمضان بمثابة الفرصة التي يحقق الصائم من خلالها هذه النتيجة بمستوىً ما، إلا أننا نشهد أن كثيراً من الصائمين في شهر رمضان يختمون شهرهم دون أن يخرجوا برصيد مهم على هذا الصعيد، لأن تركيزهم ينصب على التعامل الآلي والجامد مع هذه العبادة، ويغفلون عن أبعاد تشريعها وآثارها. فالمسألة بالنسبة إليهم لا تتجاوز الامتناع فعلياً عن المفطرات لسويعات معدودة، بينما يبقى القلب مشدوداً إليها، منشغلاً بها، مهموماً حزيناً، ينتظر بفارغ الصبر انقضاء تلك السويعات، ليُقبل الصائم بكل نَهَم ـ وبإسراف ـ على ما مُنع عنه، ولينشغل خلال ساعات الليل في الأجواء اللاهية والممارسات العبثية بما يدمّر له تلك الإرادة القليلة التي لربما تحققت من خلال الصيام. إن القرآن الكريم يخبرنا أن التقوى غاية الصيام، فهل سيحقق لنا صيامُنا هذا العام تلك الغاية؟ سؤال برسم الإجابة..