خطبة الجمعة 13 شعبان 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: مباحث لطيفة من العلم الإلهي


ـ الحديث عن صفات الله تعالى حديث شيّق يشوبه الغموض مهما حاول المتكلم أن يوضّح المعاني، ولكن أن يتكلم علي(ع) عن ذلك ببلاغته وبمخزون علمه الذي أخذه عن رسول الله(ص)، فهو أمر ـ لا شك ـ يجذب الاهتمام، ويعطي للموضوع قيمة كبرى.
ـ ولأمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة خطبة برقم 64، وهي بعنوان (مباحث لطيفة من العلم الإلهي) يقول في جانب منها: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حالاً، فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً، وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً) ففي الوقت الذي هو الأول دون أن يحدّه الزمن هو الآخر دون أن ينتهي به الزمن.. فهو خالق الزمن ولا يُقاس بالزمن.. وإذ كان هو الظاهر الذي تراه العقول من خلال التدبر في الإبداع في مخلوقاته، هو الباطن الذي لا يمكن للعيون أن تراه وللحواس أن تُدركه.
ـ (كُلُّ مُسَمّىً بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ) أي أن كل ما يوصف بأنه واحد، فدليل قلة، لأن الإثنين أكثر، والثلاثة أكثر.. وهكذا.. إلا الله تعالى، فلا تُتصور القلة في حقه وهو الواحد الأحد.
ـ (وَكُلُّ عَزِيز غَيْرَهُ ذَلِيلٌ، وَكُلُّ قَوِي غَيْرَهُ ضَعِيفٌ) لأن عزة كل مخلوق وقوته مسألة نسبية، فكل المخلوقات محتاجة وضعيفة، مهما تعاظمت.. روى الطبري في تاريخه أنه (دخل ابن السماك) واسمه محمد بن صبيح العجلي أحد الزهاد المشهورين في زمانه (على الرشيد يوماً، فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتي بقُلّة من ماء، فلما أهوى بها إلَى فيه ليشربها، قَالَ له ابن السماك: على رَسلك يا أمير المؤمنين. بقرابتك من رسول الله(ص) لو مُنعْتَ هذه الشربة، فبكم كنتَ تشتريها؟ قَالَ: بنصف مُلكي. قَالَ: اشرب هنأك الله. فلما شربها، قَالَ له: أسألك بقرابتك من رسول الله (ص)، لو مُنعتَ خروجَها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قَالَ: بجميع ملكي. قَالَ ابن السماك: إنَّ مُلكاً قيمتُه شَربةُ ماء، لجديرٌ ألا يُنافَس فيه. فبكى هارون).
ـ (وَكُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ) فالله وحده المالك لكل شيء ولا مالك له (وَكُلُّ عَالِم غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ) وهل في الوجود من ملائكة وجن وإنس وغيرهم من مخلوقات الله إلا ويكون علمه اكتسابياً؟
ـ (وَكُلُّ قَادِر غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَيَعْجَزُ) إما في نفس الوقت بلحاظ نسبية قوة الأشياء، أو بمرور الزمان بلحاظ تبدّل الأحوال.. ولو تمثّلنا حال الإنسان كنموذج على ذلك لوجدناه كما قال الله تعالى: (اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) [الروم:54].
ـ (وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الأَصْوَاتِ، ويُصِمُّهُ كَبِيرُهَا، وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا) فقدرة السمع عند الإنسان مثلاً لها حدود، يؤثر فيها تردد الصوت فلا يسمع عادةً إلا ما كان بين (20-20000 هرتز)، ويؤثر فيها البُعد المكاني، ويؤذيها صوت الانفجار.. عندما تصل قوة الصوت إلى 120 ديسيبل تتعرض الأذن لآلام واضحة، وعند 140 ديسبيل تنفجر طبلة الأذن، وعند 150 ديسيبل يبدأ القفص الصدري بالاهتزاز ويتعرض الإنسان للغثيان والسعال الحاد وضيق شديد في التنفس، وعند 200 ديسيبل تنفجر الرئتين، ثم أكثر من ذلك تتأذى كل أنحاء الجسم وتنتهي باضطرابات في عمل القلب والدماغ وتكون النتيجة هي الموت.
ـ (وَكُلُّ بَصِير غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الألْوَانِ وَلَطِيفِ الأجْسَامِ) فالإنسان يرى الضوء الأبيض المكوَّن أساساً من ألوان الطيف (الأحمر والأصفر والبنفسجي إلخ)، ولكنه لا يرى الأشعة فوق البنفسجية أو تحت الحمراء.
ـ وهكذا كلما تمعّنت في صفة من الصفات التي تشترك في الظاهر بين الله وبين مخلوقاته، كالمُلك والعلم والقوة والسمع والبصر والحياة والظهور ستجد أن التشابه بينها غير حقيقي.. فكل ما يتصف به خلقُ الله هي صفات نسبية، تشتد وتضعف، وتكون ولا تكون، وتتمكن من أشياء وتعجز عن سواها.. وأما الله عزوجل فهو المتعالي الذي لا شبيه له ولا عديل. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). و(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ).