خطبة الجمعة 22 رجب 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: قصص الأنبياء في الميزان


ـ بمناسبة قرب حلول ذكرى المبعث النبوي الشريف، أود أن أتحدث قليلاً عن شأن من شؤون كتاب الله.
ـ فقد احتوى القرآن على قواعد الإيمان، والتشريعات، والتعاليم الدعوية، والأخلاقية، والحكمة، علاوة على قصص الماضين. وقد كانت غاية القرآن من سرد القصص:
١/ أخذ العبرة في الحركة الرسالية ومسيرة الدعوة.
٢/ تنبيه وتحذير مختلف الناس من الشرك، والكفر، والانحراف، والفساد، واتّباع الأهواء، ومعاداة الأنبياء
٣/ تصحيح بعض ما ورد في قصص أهل الكتاب التي دخل عليها التحريف والوضع، تنزيهاً للأنبياء(ع)، وتقويماً للمفاهيم.
ـ لكل هذا فإن ما جاء به القرآن من تلك القصص كان مجرد وقفات سريعة وبحسب الغاية التي من أجلها سيقت. نعم يستثنى من كل ذلك قصة النبي يوسف(ع)، وقد تحدثت عن هذا الأمر في خطبة سابقة.
ـ بعد وفاة رسول الله (ص) اتسعت الفتوحات، وشعر المسلمون بشيء من الاستقرار، مع وفرة مالية أدخلت نوعاً من الحياة المرفهة، حيث ازداد عدد العبيد والخدم الذين صاروا يقومون بكثير من الأعمال اليدوية بدلاً عن سادتهم.
ـ هذا التبدّل خلق أوقاتَ فراغ كان يصعب على المسلمين أن يجدوها ضمن نمط حياتهم السابقة، وبحسب طبيعة مشاغلهم، فرغبوا ـ نتيجة ذلك ـ بمليء ما اعتبروه فجوات في القصص القرآنية، وإكمال بعض حلقاتها من حيث تحديد الأنساب والأسماء، والأزمنة والأمكنة، وفي تفاصيل الأحداث، وغير ذلك، ووجدوا غايتهم في القصاصين المتكسّبين، وفي أحبار ورهبان أهل الكتاب.
ـ وهكذا انفتحت الساحة لهؤلاء كي يعبثوا في ثقافة الناس ومعارفهم من خلال هذا الباب الواسع، لاسيما وقد تبنّى بعض الخلفاء بعضاً منهم، واعتبروهم من مصادر المعرفة الدينية والتاريخية المعتمدة لديهم.
ـ ودخلت أساطير الأولين والقصص المُحدَثة والإسرائيليات والمسيحيات والموروثات الروائية الخرافية للهندوس والبوذ والمجوس وغيرهم من خلال هذه القصص التي نُسبت للنبي وآله والصحابة والتابعين وعلماء المسلمين.
ـ وكان من أخطر صور ذلك إقحام تلك القصص في تفسير القرآن الكريم:
1/ فقد أبعدت هذه الأساطير التفسيرية الحكمة من القصة القرآنية (أي أنها حوّلتها عن مقاصدها).
2/ وأحدثت مغالطة في فهم كتاب الله العزيز.
3/ وتشويهاً للقصص في نفسها وفي دلالاتها.
ـ وقد حذّر القرآن من مغبّة الوقوع في هذا المحذور: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا)[الكهف:22].
ـ وهذا انتقاد ضمني للخوض في هذه التفاصيل اعتماداً على الظنون، أو لجوءً إلى القصّاصين، فالمسألة ستكون رجماً بالغيب، فالحذر من الجدال بخصوصها مع عدم امتلاك المعلومة المؤكدة.
ـ ثم تعود الآيات لتؤكد المطلب: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قُلِ اللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا، وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)[25-27]. أي أن الركون إلى الروايات المبثوثة في كتب التفسير والتاريخ، والمشتملة على تفاصيل قصص الأنبياء والأمم الغابرة، من دون امتلاك دليل أكيد على صدورها عن النبي(ص) والأئمة(ع) يعتبر مشمولاً بالتحذير السابق.
ـ وفعلاً عندما نعود لدراسة مصادر وأسانيد تلك المرويات ومضامينها سنجد الأمثلة التالية:
ـ في مشرعة بحار الأنوار للعلامة محسني حول أبواب قصص موسى وهارون(ع) يقول بشأن الباب الخاص
بـ (نقش خاتمهما وعلل تسميتهما وفضائلهما وسننهما): (لم يصح شيء من روايات الباب سنداً ومصدراً).
ـ والباب الخاص بـ (أحوال موسى(ع) من حين ولادته إلى نبوته): (ولم تصح من روايات الباب إلا ما نقله برقم 5 و 9.. وهنا إشكال آخر في الروايات الطويلة، كيف ضبطها الرواة وإن صحّت أسانيدها، ففي بعض المقامات يُقطع بأن معظم كلماتها من غير الإمام).
ـ والبابان الخاصان بـ (مؤمن آل فرعون خروج موسى(ع) من الماء): (فاللازم في البابين الاقتصار على الآيات المذكورة فيها فقط لضعف جميع رواياتها سنداً أو مصدراً، كالاختصاص) هو كتاب منسوب للمفيد (المجهول مدوِّنُه، ومثل قصص الأنبياء) المنسوب إلى الراوندي عن الصدوق.
ـ وأما القول بأن ضعف السند ليس دليلاً على عدم صدور الرواية عن النبي أو الإمام، فمردود عليه بالرجوع إلى مضامين تلك القصص حيث تجد فيها من قبيل الخبر التالي عن النبي سليمان حيث يروى أنه قد بنت له الشياطين حصناً فيه (ألف بيت، في كلّ بيت طروقة) أي امرأة للجماع (منهنّ سبعمائة أمة قبطيّة، وثلاثمائة حرّة مهيرة، فأعطاه الله تعالى قوة أربعين رجلاً في مباضعة النّساء، وكان يطوف بهنّ جميعاً، ويسعفهنّ).
ـ وهذا يصب في نفس الاتجاه الذي تقدِّم فيه النصوص الإسرائيلية الأنبياء بصورة شهوانية وعبثية.
ـ بالطبع لا أريد أن أنفي كل ما روي في باب قصص الأنبياء، ولكن علينا التعامل معها بحذر ورويّة.
ـ إن قصص الأنبياء القرآنية تمثّل رافداً من أهم روافد الإيمان والأخلاق والحكمة والعمل الرسالي، فهم مبعوثو العناية الإلهية لهداية البشرية، وهم الذين أمرنا الله أن نقتدي بهم حيث قال سبحانه: (أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، ولو كان شغف معرفة تفاصيل قصصهم يقتصر على مراكمة المعلومات فحسب لربما هان الأمر، ولكن المسألة أبعد من ذلك، لأنها مسألة الإيمان والأخلاق والهداية. ولنتذكر أنه على الرغم من شهرة قصة طوفان نوح (ع) بين الأمم ومنذ القِدَم، إلا أننا نجد أن الله عز اسمه يقول بعد أن نقل جانباً منها: (تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا) [هود:49]، ليؤكد لنا قيمة الحقيقة ومنبعها الصافي، ووهن الخرافة أينما كان مصدرها، لأن الظن في نهاية المطاف لا يُغني من الحق شيئاً.