خطبة الجمعة 15 رجب 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: كدودة القز

ـ عن الإمام الباقر(ع): (مثل الحريص على الدّنيا كمثل دودة القزّ، كلَّما ازدادت من القزّ على نفسها لفّاً، كان أبعد لها من الخروج، حتى تموت غمّاً).
ـ الحرص هو التعلَّق الشديد بالشيء والذي يصل إلى حدّ الإفراط.
ـ فالحريص على المال هو المتعلّق به تعلقّاً شديداً يخرجه عن حدِّ التوازن، ويتحول مالُه إلى مالكٍ لا مملوكٍ له، وهو مستعد أن يفعل أي شيء من أجل الحفاظ عليه ومن أجل أن يراكم عليه المزيد، ليكون ذلك سبباً لشراء سعادته.
ـ والحريص على المنصب يتعلّق به تعلّقاً لا يُتصوَّر أنّه سيتخلّى عنه أو يُعزل منه، ويأتي بكل ما من شأنه أن يُبقيه في هذا الموقع المتقدم، فيكون في الواقع مرؤوساً له بدل أن يكون الرئيس عليه.
ـ والمرأة الحريصة على جمالها والمحافظة على مظهرها الخارجي بشكل مهووس دون النظر إلى حقيقة تقدُّم العمر بها وتوابع ذلك، ستفعل أي شيء من أجل أن تُبقي الأمور على ما كانت عليه، وسيكون ذلك جل همها في الحياة وفي إنفاقاتها، وسيشل تفكيرها عن أي أمر آخر مهما كان مهماً.
ـ وبتعبير الإمام علي(ع): (الحريص عبد المطامع)... فما السبب وراء ذلك؟
ـ الإنسان مفطور على حبِّ الكمال والسعي نحوه, لذا تراه حينما يعتقد شيئاً كمالاً له فإنّه ينجذب إليه ويحرص عليه ويتمسك به، ولربما لدرجة جنونية.
ـ ولكن الإنسان قد يُخطىء مصداق الكمال, فينجذب إلى مصاديق النقص ويتفاعل معها كمحقِّقات لكماله، ولكنها تدريجياً تعمل على الالتفاف عليه ومحاصرته إلى أن تقضي عليه، دون أن يحقق الكمال بها.
ـ والصورة كما في الحديث.. هناك أشياء كثيرة في الدنيا يكون ظاهرها جميلاً، وتبدو مريحة وتجعل الإنسان منعّماً مرتاحاً، تماماً كخيط الحرير الذي تصنعه تلك الدودة، ولا أدل على النعمة والراحة والترف كالحرير.
ـ وهذا ما يجعل الإنسان ساعياً بقوة للحصول عليها، ولربما بأي ثمن، المهم أن يمتلكها.. وكأنه في تلك اللحظات يفقد عقله.. لا يعود عقلانياً في حساباته.
ـ هو مستعد أن يعرّض حياته ومستقبله إلى الخطر وإلى التدمير من أجل المزيد من المال.. حين تُعرض عليه الرشاوى، أو يمد يده إلى المال الحرام، أو يساهم في غسيل الأموال، أو يتاجر بالمخدرات... إلخ.
ـ ليس المهم بالنسبة إليه من أين يأتي المال، ولا يتحرج من النصب والاحتيال، ولا يهمه أن تفوته صلاة، أو يفقد شيئاً من دينه.. المهم أن تتضخم أرصدته بسرعة.
ـ وهي مستعدة أن تُهمل مسؤولياتها الأسرية فتعرّض أبناءها إلى الانحراف والضياع، لتصاحب رفيقات السوء في اللقاءات العبثية الممتدة لساعات طويلة، مع كل ما يدور فيها ويحيط بها من مفاسد.
ـ وأن تنتقل من عيادة إلى أخرى، ولتسافر من بلد إلى بلد، من أجل أن تبقى في مظهرها الخارجي شابّة من خلال عمليات التجميل التي تتحول عندها إلى حالة من الهوس.
ـ بل هي مستعدة أن تخسر آخرتها دون ريب حين تُقبل على الكبائر والفواحش من أجل الحصول على المزيد من المال الذي يخوّلها أن تقتني المزيد من منتوجات الماركات الثمينة التي تبزّ بها صويحباتها.
ـ هذه وأمثالها هي خيوط الحرير الناعمة التي ينسجها الإنسان حوله، وهو يتخيل أنها ستجلب له السعادة، وأنه من خلالها سيشعر بالراحة، وأنها التي ستحقق له التفوق على الآخرين، فتنطفيء في داخله نيران الغيرة والحسد والتنافس على زخرف الدنيا.
ـ إن الحريص على الدنيا يرى خيوط الحرير التي يلفها حوله خيوطاً ضعيفة يستطيع التغلب عليها أو تجاوز تبعاتها متى ما أراد، ولكنه مخطيء، فحرصه على الدنيا بملذاتها يدفعه إلى طلب المزيد والمزيد، حتى تتحول هذه الخيوط إلى جدار يمتنع اختراقه، وتحجب عنه الضوء، وتمنع عنه الهواء، وتخنقه في داخلها، ويموت غماً، لأنها لم تجلب له أكثر من أحاسيس مؤقتة للذة، ولم تحقق له آماله التي لا حدود لها، لأن النهم جزء من طبيعة الحرص على الدنيا، ولأن الدنيا لا تعطي الإنسان كل ما يريد.. وهكذا تصل به الحياة إلى خواتيمها، فإذا به يكتشف حقيقة الخسارة الكبرى التي مُني بها ولا يستطيع العود لإصلاح ما أفسد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّـهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-11].