خطبة الجمعة 16 جمادى الآخرة 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: بين الادعاء والواقع


(وَأَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا، اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) [فاطر:42-43].
ـ من اليسير أن يدّعي أحدُنا ما يشاء من مواقف وبطولات مستقبلية لو استدعت الظروف أو كانت مهيأة لذلك... والسبب في ذلك أن:
1ـ الكلام مجاني.
2ـ ذاكرة كثير من الناس كذاكرة السمك، ويمكن لأحدنا أن يراهن على ذلك.
3ـ التلاعب بالمقاصد والكلمات ـ لو استدعى الأمر ذلك ـ بالنسبة إلى البعض ليس بالشيء العسير.
ـ وقد يأتي هذا ـ تارة ـ لمجرد حب التمظهر واستعراض القوة بالادعاءات الفارغة... ولربما كان بسبب الانخداع والاغترار بالقدرات الذاتية... كما قد يأتي نتيجة النوايا الخبيثة التي تستبطن خداع الناس لتحقيق مكاسب شخصية أو حزبية أو غيرهما.
ـ ولنلاحظ ـ كما تُبيّن الآيات السابقة ـ كيف كان بعض المشركين قبل البعثة يسخرون ويعجبون من مواقف أهل الكتاب تجاه الرسالات والأنبياء وفي مواجهتهم لهم بالعنف والإنكار والجحود والطغيان والتمرد.
ـ وكانوا يُقسمون بالأيمان المغلظة أنهم لو قاموا مقامهم لصدّقوا الرسل ولنصروا الحق..
ـ والواقع أنهم عندما دخلوا ذات التجربة سارعوا إلى اتخاذ ذات المواقف السلبية والعدائية... فما السبب؟
ـ العامل الأول: أن مصالحهم الشخصية والقبلية والحزبية تضاربت مع الرسالة... لأنهم لو قبلوا بها:
1ـ سيفقدون امتيازاتهم ومواقعهم المتقدمة.
2ـ سيضطرون إلى التوقف عن الممارسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية الباطلة والفاسدة التي كانوا يحققون من خلالها أرباحاً طائلةً على حساب المستضعفين.
ـ ولسنا بعيدين في واقعنا الحالي عن معايشة هذه التجربة ـ حتى من قبل الإسلاميين ـ الذين كانوا يَعجبون من طغيان وفساد الحكام وأصحاب النفوذ والثروة، وكانوا يُقسِمون أنهم لو حلّوا محلهم لحققوا العدل والإصلاح والتنمية، حتى إذا اختُبروا في ذات الأمر أثبتوا أنهم لا يختلفون كثيراً عمّن كانوا يصبّون عليهم اللعنات!
ـ بتعبير السيد الشهيد الصدر وهو يخاطب تلاميذه: (نحن نقول بأننا أفضل من هارون الرشيد، أورع من هارون الرشيد، أتقى من هارون الرشيد، عجباه نحن عُرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها حتى نكون أورع من هارون الرشيد؟). ثم تمثّل بقول هارون الذي كان يقول للسحاب أينما تمطرين يأتيني خراجك! في سبيل هذه الدنيا سَجن موسى بن جعفر. هل جربنا هذه الدنيا أن تأتي بيدنا ثم لا نَسجن موسى بن جعفر؟
ـ العامل الثاني: أن تلك الادعاءات كانت وسيلة من وسائل الخداع التي كانوا يلجؤون إليها من أجل تمرير مخططاتهم الشيطانية، وتحقيق مآربهم الخاصة ـ بكل خُبث ـ والتي تمثلت في:
1ـ استحكام نفوذهم وتعاظم قوتهم على حساب المستضعفين.
2ـ تنامي ثرواتهم على حساب الفقراء.
ـ متظاهرين بالإخلاص للحق، وأن الظروف لو تهيأت فسيكونون من أنصاره... إلا أن الواقع كشف حقيقتهم.
ـ ونتوقف للحظات مع كلمات الإمام زين العابدين(ع) وهو يلجأ إلى الله مستلهماً القوة لمواجهة نوازع النفس في ذات الإطار الذي كنت نتحدث عنه فيقول: (نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَنْطَوِيَ عَلَى غِشِّ أَحَدٍ، وَأَنْ نُعْجَبَ بِأَعْمَالِنَا، وَنَمُدَّ فِي آمَالِنَا. وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سُوءِ السَّرِيرَةِ، وَاحْتِقَارِ الصَّغِيرَةِ... وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَسْرَةِ الْعُظْمَى، وَالْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى، وَأَشْقَى الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْمَآبِ وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ، وَحُلُولِ الْعِقَابِ).