خطبة الجمعة 2 جمادى الآخرة 1437: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: كي لا ننسى


ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّـهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم:5].
ـ كل الزمن لله، بل كل الوجود لله، إلا أن نسبة الأيام إلى الله في الآية السابقة ذات دلالة خاصة... فعندما تكون معلّماً وتؤشر إلى طالب محدد وتقول: (هذا تلميذي) فأنت تريد أن تبيّن تميّز هذا الطالب لخصوصية ما فيه، على الرغم من أن زملاءه تلاميذك أيضاً، وما ذاك إلا لتجلّي تربيتك وتعليمك من خلاله.
ـ وهكذا الأمر بالنسبة إلى كلمة (أَيَّامِ اللَّـهِ)، فهي الأزمنة التي تتميّز بتدبير إلهي خاص وجليّ، له علاقة بالنِّعَم، أو بالنِّقَم، أو بغير ذلك. فهي مظاهر قدرته وسطوته ورحمته وعذابه في تاريخ الأزمنة السابقة.
ـ ونسبة (الأيام) إلى (الله) في الآية لحث الناس على التفكير بالارتباط بالله من أقرب طريق، بنشدان رضاه ورحمته، والخوف من سخطه وعقابه، والالتزام بالمنهج الذي يريدهم أن يسيروا عليه.
ـ وهدف التذكير هنا لا يقتصر على الجانب الاحتفالي كما هو مشهود بالنسبة إلى بعض المجتمعات، حتى الإسلامية منها، حيث لا تعود المناسبة أكثر من فرصة للترفيه وإقامة المعارض وأمثال ذلك، وتغيب معها القضية الحقيقية والدروس والعِبَر والبحث في طرق الوقاية ومعالجة الأخطاء.
ـ كما لا يقتصر هدف التذكير في الأحداث ذات البُعد المأساوي على إثارة الأحزان والاستغراق فيها، والبكاء على الماضي وآلامه، ليغيب الوعي في أعماق العاطفة المجردة.
ـ ولذا اختتمت الآية بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ) دلالات وعبر ودروس ومواعظ (لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
ـ فالبلاء يحتاج إلى صبر، لا على مستوى ترديد (إنا لله وإنا إليه راجعون) وكفى، أو بالاستسلام للأوضاع السلبية الناتجة عن ذلك البلاء.
ـ كما أن النعمة تحتاج إلى الشكر الذي لا يقتصر على مقولة (الحمد لله) بينما لا يمثّل سلوك قائلها أي تعبير عن الشكر الحقيقي.
ـ ومن هنا نفهم الطاقة الكبيرة التي يبثّها التذكير الواعي بتلك الأحداث، كما في حِرْصنا على إقامة مراسم عاشوراء في كل عام، حين يكون استحضاراً واعياً للمناسبة، نُطلق من خلالها مفاهيم العزة، والكرامة، والإخلاص لله، والتضحية من أجل القضية التي نؤمن بها.
ـ ومن لا يريد لك الخير، فإنه يسعى دائماً إلى تغييب تلك الأحداث عن ذاكرتك، أو إلى تمييعها بتغييب وعيها، وحصرها في الجوانب الاحتفالية والعزائية والشكلية.
ـ ومن هنا ندرك كيف يسعى المخلصون للإسلام ـ من جهة ـ للإبقاء على القضية الفلسطينية حاضرة في ذاكرتنا، وكيف يعمل الآخرون من أجل أن ننسى، حتى بات بعض المسؤولين الإسرائيليين يتحدثون مؤخراً عن أن مسألة التطبيع مع الدول العربية باتت مسألة وقت.
ـ نعم، إنهم يراهنون على محو ذاكرتنا، أو تمييعها، وهذا يجعل من من مسؤوليتنا في مواجهة العدوان الصهيوني المستمر باغتصاب الأرض، وتشريد أهلها، وقتل الأبرياء، والتآمر الدائم على أمتنا الإسلامية، أن نُبقي القضية الفلسطينية والعدوان الصهيوني أمراً حياً وحاضراً في الذاكرة وعن وعي.
ـ اليهود على مر آلاف السنين ما زالوا يعيشون ويحيون ذكرياتهم، والأحداث المفرحة والمحزنة التي مرّت عليهم، فهذا عيدٌ يستمر أسبوعاً يحيون فيه ذكرى الخروج من مصر، وعيد آخر لذكرى سفرهم في الصحراء، ويومُ صيام حزناً على حصارهم في القدس، ويوم آخر حِداداً على خراب الهيكل، وغير ذلك.
ـ كل هذا كي لا ينسوا.. كي تبقى قضاياهم التي يؤمنون بها ومرت عليها آلاف السنوات حيةً في ذاكرة الأجيال، فاعلةً في مشاريعهم، دافعةً لإنجازاتهم.. وأما نحن، فيريدون لنا أن ننسى ما جرى قبل ستين سنة!
ـ إنَّ الحفاظَ على قضيةٍ ما ـ كالقضية الفلسطينية ـ حاضرةً في الوعي، مسؤوليةٌ كبرى، وتحدٍّ صعب، لأن مِعْول الزمن كفيلٌ بأن يمحو ذاكرةَ الشعوب.. كما أنَّ أعداءَ أمتِنا، ومَن تتعارض مصالحُهم الشخصيةُ والسياسيةُ والاستبداديةُ مع مصالحها، لن يتوانوا في أن يتحالفوا مع الزمن ليُمعِنوا في محو ذاكرة الأمة، وفي تضييع حقوقها، ولإخفاء الحقائق ولتمييع القضايا. فلا تَمَلّوا، ولا تستسلموا، ولا تَركَنوا إلى الباطل، ولا تتثاقلوا استحضارَ الأحداث مهما كانت مؤلمة، لأننا نريد لآلامِنا أن تكون آلاماً دافعة إلى التفكير والتخطيط والعمل لخلاص المظلومين، والمضطهدين، والمستضعفين، لا الآلام التي نجترُّ فيها أحزانَنا لتأخذنا إلى هاوية العذابات وجَلد الذات.