خطبة الجمعة 24 جمادى الأولى 1437: الشيخ علي حسن : خ الثانية: لماذا لم يلغ الإسلام نظام الرق /2


أـ ألغى الإسلام أكثر صورة الاسترقاق، وأبقى على صورة الاسترقاق في الحروب. فلا يجوز بيع النفس ولا الأبناء ولا الزوجة ولا المراهنة عليهم، وألغاها كنوع من القصاص وعقوبات الجرائم .. إلخ.
ـ ولذا في مجال الديون مثلاً: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ)[البقرة:280] فلا استرقاق ناتج عن العجز.
ب ـ ارتقى بأسلوب التعامل مع الرقيق واعتبر الإحسان إليهم فرعَ التزامنا بالتوحيد: (وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ... وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)[النساء:36].
ـ وفي الآية 25 من سورة النساء جوازُ الزواج بالأمة المسلمة، ووجوبُ إعطائها المهر، وهو ما كان غير ممكن أو كان معيباً، بل عاب عبدالملك بن مروان الإمام زين العبادين(ع) حين تزوج أمته المحررة، ففي الكافي: (كتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (ع) أما بعد فقد بلغني تزويجك مولاتك وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر وتستنجبه في الولد فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت والسلام فكتب إليه علي بن الحسين (ع): أما بعد فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر واستنجبه في الولد وأنه ليس فوق رسول الله (ص) مرتقا في مجد ولا مستزاد في كرم وإنما كانت ملك يميني خرجت مني، أراد الله عزوجل مني بأمر ألتمس به ثوابه، ثم ارتجعتُها على سنته. ومن كان زكياً في دين الله فليس يخل به شئ من أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمم به النقيصة، وأذهب اللؤم، فلا لؤم على امرء مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية والسلام.
فلما قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه فقال: يا أمير المؤمنين لشد ما فخر عليك علي بن الحسين! فقال: يا بني لا تقل ذلك، فإنها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر. إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتضع الناس).
ـ وعللت الآية جواز ذلك بقوله: (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ). أي أن الإيمان يتحوّل إلى رابطة تتساوى فيها الإنسانية، وإذا كانت للرق أحكام خاصة، فهي ناشئة عن الجانب الخارجي القانوني لا الإنساني.
ـ وفي عدة أحاديث نبوية توصيات في هذا الإطار من قبيل: (أرقّاؤكم إخوانكم)، (عن جابر: كان النبي(ص) يوصي بالمملوكين خيراً ويقول: أطعموهم مما تأكلون).. (أطعموهم مما تَطعمون، وألبسوهم مما تَلبسون).. وحتى على مستوى التسمية: (لا يقُل أحدكم: هذا عبدي، وهذه أمتي، وليقل فتاي وفتاتي). وسئل الرضا(ع): (في مملوك يعصي صاحبه، أيحل ضربه أم لا؟ فقال: لا يحل، إن وافقك فأمسِكْه، وإلا فخل عنه).
ـ وقد نتج عن هذا ظهور قامات علمية من بينهم، وقيادات سياسية وعسكرية وأطباء ووزراء ورجال أعمال كبار، بل وتأسست دولة كدولة المماليك حكامها منهم، وهذا ما لا يمكن تصوره لولا هذه التعاليم الراقية.
ج ـ الأمر بالتحرير وجوباً تعينياً أو تخييرياً، ومن صور ذلك ما جاء في قوله تعالى:
ـ (مَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ)[النساء:92] بعد أن كان القاتل يتحول إلى عبد أحياناً، أصبح الفكاك من هذا الخطأ حرية أحد العبيد، وهكذا في الظهار وكفارة اليمين والإفطار العمدي.. إلخ.
د ـ التشجيع على التحرير استحباباً، ومن صور ذلك ما جاء في قوله تعالى في سورة البلد المكية: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ) [البلد:11-13]، وعن الباقر(ع): (من ضرب مملوكاً حداً من الحدود من غير حدٍّ أوجبه المملوك على نفسه، لم يكن لضاربه كفارةٌ إلا عتقَه) والنصوص كثيرة جداً.
هـ ـ وضع تشريعات مساعِدة على التحرير من قبيل (المكاتبة): (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّـهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور:33]، وهذا النظام يقتضي التوافق على التحرر من خلال دفع الرقيق ثمن حريتهم، ثم مساعدتهم مالياً من خلال مال الزكاة مثلاً ليستعينوا به في المكاتبة وبناء حياته بعد التحرر ومن قبيل تشريع (أم الولد) حيث لا يجوز بيعها ولا هبتها وتتحرر بعد موته.
و ـ الاسترقاق لم يكن هدفاً في حروب النبي(ص)، ولذا نجده (ص) في غزوة حنين يقول ـ وقد أصبح تحت يديه ستة آلاف من سبي النساء والأطفال ـ حين جاءه وفد هوازن مسلمين تائبين من عدوانهم: (أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردَّ إليهم سبيَهم، فمن أحب منكم أن يَطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيَّبنا ذلك لرسول الله (ص) لهم، فقال رسول الله (ص): إنا لا ندري من أذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله (ص) فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا).
3ـ ويبقى السؤال: لماذا لم يتم إلغاء هذا النظام في الإسلام نهائياً؟
ـ لم يكن من صلاح المجتمع في عهد نزول الشريعة الإسلامية أن يتم الغاء نظام العبودية، لأن النظام الاقتصادي كان سينهار مع اتخاذ مثل هذا التدبير دفعة واحدة، ويضرب على ذلك مثال معاصر بأن نتخيل صدور قرار بترحيل ومنع كافة العمالة الوافدة في البلد.. فهل لك أن تتخيل تبعات ذلك؟
ـ والمجتمع الأمريكي لم يستطع إلغاءه إلا بعد التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي الحديث.
4ـ ولكن البعض يطرح إشكالية عدم وضع سقف زمني في الإسلام لإلغاء العبودية، بحيث تكون الإجراءات والتشريعات قد قضت على ظاهرة الرق خلال تلك المدة.. وهذا ما لم يحصل.. أي أن الإسلام يريد العبودية.
ـ لا، الإسلام لا يريد العبودية ولا يحبذها، ولكنه ـ في نفس الوقت ـ يتعامل مع هذا الموضوع بواقعية، فالمجتمع المسلم آنذاك لم يكن المجتمع الوحيد على الكرة الأرضية، وهو مجتمع متفاعل اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وثقافياً مع سائر المجتمعات الإنسانية، واتخاذ خطوة من هذا القبيل ليس بالتصرف الواقعي ما لم تنضج البشرية لترفض العبودية حيثما كانت.
ـ ولذا ترك الإسلام هذا الأمر لتطور الرؤية البشرية في هذا الإطار، ومتى ما استقرت على رفض العبودية، ساهم في إنجاح ذلك، وأغلق موارد الاستعباد، بعد أن عمل من قبل التخفيف منها وارتقى في التعامل معها.
ـ ومن هنا، فإنه مع توقف المجتمعات البشرية غير المسلمة ـ في هذا العصر ـ عن الاسترقاق في أجواء الحروب، فلا محل لقيام المسلمين باسترقاق نساء وذرية المحاربين غير المسلمين.
ـ وأما ما يقوم به التكفيريون في هذا الزمان من عمليات استرقاق وفتح أسواق النخاسة، فهو عمل باطل ومرفوض ومَعيب بحق الإسلام، ولو كان هؤلاء الجهلة يملكون قليلاً من العلم الشرعي، لأدركوا أن ما يقومون به باسم الإسلام وتطبيق شريعته ليس سوى همجيةٍ نابعةٍ من لهاثهم وراء شهواتهم ومفاسدهم، حتى فاقوا بأفعالهم المغول الذين تُضرَب بوحشيتهم الأمثال، هذا فضلاً عن كون جرائمهم تلك مقصودة من قبل بعضهم للإساءة إلى الإسلام خدمةً لأسيادهم في الجهات الاستكبارية والمخابراتية الدولية.