خطبة الجمعة 17 جمادى الأولى 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عندما تضيع الأوطان


ـ جاء في الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين(ع): (واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ بِسُوءِ الأفْعَالِ، وَذَمِيمِ الأعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ..... فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الأمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً، وَالأهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالأيْدِي مُتَرَادِفَةً، وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الألْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالأفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ، وَبَقّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ).
ـ قالوا: (تُعرف الأشياء بأضدادها) فالإنسان لا يعرف معنى النور لولا الظلام، ولا يعرف معنى الطمأنينة والأمن لولا الخوف.
ـ إلا أن إدراك قيمة الشيء ليس بالضرورة أن يتحقق من خلال فقدانه وضياعه، وهذا ما وجّه إليه الإمام علي(ع) في المقطع السابق، حيث أن دراسة التاريخ بوعي كفيلة بأن توصل الإنسان إلى نتائج ملموسة تحاكي واقعه المعاصر.
ـ ومن خلال هذه النتائج يُفترض به أن يتخذ التدابير الكفيلة بتجنب تكرار ذات السيناريو لضياع الأوطان.
ـ ولكن على كل حال فإن لأبناء الكويت نوعاً من الامتياز في هذا الشأن، فهم قد عاشوا فعلاً تجربة مريرة تمثلت في ضياع وفقدان الوطن بدخول الغزاة الصدّاميين واحتلالهم الكويت في الثاني من أغسطس من عام 1990، وادعاء عودة الفرع إلى الأصل، وإطلاق عنوان المحافظة التاسعة عشرة على الكويت، وسائر الإجراءات الأمنية والسياسية والإدارية التي اتخذت على هذا الصعيد.
ـ والحمد لله وله المنّة أن هذه التجربة لم تستمر كثيراً، وزال كابوسها في غضون أشهر.
ـ وبالتالي فإنه إضافة إلى الجانب النظري في دراسة التاريخ وعوامل نهوض ودمار المجتمعات، نمتلك نحن تجربة عملية فريدة من نوعها، وأدرك من خلالها كثير من أبناء الكويت ـ في حينها ـ قيمة الوطن وأهميته.
ـ وفقدان الوطن من أكبر المآسي التي يتعرض لها الإنسان، لأن الوطن في ضمير الفرد هو الأمن والأمان.
ـ في القرآن الكريم حديث ثناء ومدح لـ (الذين هاجروا) متكرر 9 مرات، كقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل:110].
ـ أي أن الهجرة المبرَّرة لها هذه القيمة العظمى عند الله، لما للكون في الوطن من قيمة كبرى في نفس الإنسان.
ـ فليس من البساطة أن يخلع الإنسان نفسه من وطنه فيهاجر، إذ أن للوطن من حضور قوي في مشاعر الإنسان وعقله وأمنه ورزقه وعلاقاته وذكرياته وغير ذلك.
ـ وليس بالضرورة أن يكون فقدان الوطن بوقوع احتلال وزوال هويته بذلك.. أو بأن يهاجر الإنسان أو يُهجَّر من وطنه مرغماً.. فقد يضيع الوطن دون ذلك...
ـ قد يضيع الوطن حين لا يبقى من أسس كينونته إلا القليل.. الأسس التي تشكَّل من خلالها ليكون وطناً للجميع، دون تمييز في الانتماءات الأسرية والقبلية والطائفية.
ـ قد يضيع الوطن حين يستحكم التباغض، وتكون الإحن والصراعات التي تخدم مصالح المتنفذين والمتحزّبين هي العنوان الأبرز في العلاقات بين أبنائه، بدلاً من التراحم والتعاضد والتكامل.
ـ قد يضيع الوطن حين تُدار أموره على البركة وردود الأفعال واتكاءً على الوفرة المالية، وليس من خلال خطط ورؤى مستقبلية وعلمية مدروسة.
ـ قد يضيع الوطن حين يغيب النقد الحقيقي البنّاء، لينحصر في النقد الصوري الهزيل الذي لا يعالج جذور الخلل، بقدر ما يسطّح المشاكل الخطيرة التي تنخر في البناء الذي سعى الآباء لإقامته مستحكماً وقوياً.
ـ قد يضيع الوطن حين يُسمَح لذوي الأطماع الدنيئة ولصوص المال العام أن ينهبوا ثرواته، ولا همّ لهم سوى مراكمة المال الحرام، دون أن يجدوا رادعاً حقيقياً وحازماً، يعيد تلك الأموال المنهوبة إلى مواضعها، ويحاسَبوا على جرائمهم الكبرى بحق الوطن والمواطن.
ـ قد يضيع الوطن حين تكون الترضيات والمساومات وشراء الضمائر وممالأة السياسيين هي العنوان الأبرز في توزيع المناصب المهمة التي يعتمد عليها الوطن في ازدهاره.
ـ قد يضيع الوطن حين يغلِّب الفردُ مصلحتَه الشخصية على المصلحة العامة، ويعيش كامل الأنانية طلباً للراحة وسعياً وراء الوظائف الوهمية، وبحثاً عن كل وسيلة ممكنة للهروب من مسؤوليات موقعه الوظيفي ومفضِّلاً الاسترخاء على العطاء، والتنزّه على العمل، ثم يُكافأ بعدها، ويُحرم منها المجدّ.
ـ فلتكن أعيادُنا الوطنية ـ في أجندات المسؤولين والمواطنين على حد سواء ـ أكبرَ من مجرد إجازة ترفيهية يقضونها في هذا البلد أو ذاك.. وأبعدَ غوراً من مظاهر التزيين وإقامة الاحتفالات.. وأعمق قراءةً من الخطابات العاطفية والكلمات الحماسية.. ولسنا ضد ذلك.. ولكننا نريد أيضاً أن تكون هذه الأعياد محطاتٍ لتقييم الواقع ضمن مخاضات الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي تزداد تعقيداً، وتشتد معها التحذيرات من انهيار الاقتصاد العالمي، وترتفع معها صور المعاناة الإنسانية، وتقوى من خلالها احتمالات اتساع رقعة الحروب وتطاير شرَرِها إلى مديات أكبر.