خطبة الجمعة 3 جمادى الأولى 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: إنا كفيناك المستهزئين


ـ (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21].
ـ من الضروري ونحن نطالع السيرة النبوية المباركة المدوَّنة في كتب التفسير والتاريخ والأحاديث، أن نعرض أحداثَها ومواقف النبي(ص) وأقواله على القرآن الكريم.
ـ صحيح أن القرآن لا يعرض تمام السيرة وتفاصيلها، إلا أنه قدّم لنا المعايير، والأطر العامة، ومجموعة من المواقف والإرشادات الإلهية التي يمكن من خلالها أن نحاكم الكثير من تلك الروايات.
ـ ولو كان الإطلاع على السيرة النبوية بمثابة قراءة لقصة للتسلية ولإمضاء الوقت لهان الأمر، إلا أن المسألة أبعد من ذلك وأخطر، فالمسلمون من خلال هذه السيرة قد:
1ـ يبنون معالم شخصية النبي(ص)، ثم يتخذونها النموذج الأمثل لصياغة شخصياتهم.
2ـ يراكمون من خلالها التجارب النبوية، مستهدين بها على مستوى التكليف الشرعي في المواقف المختلفة.
ـ ومن القضايا التي تمس واقعنا اليوم مسألة الإساءة إلى شخص النبي الأكرم(ص) من قِبَل بعض وسائل الإعلام الغربية، وبعض الملحدين، وأمثالهم.
ـ فكيف كان يتعامل النبي مع مثل هذه الإساءات وفق ما جاء في كتب السيرة والحديث مقارنة بما جاء في القرآن الكريم؟ وهل ما يقوم به البعض من ردود فعل عنيفة تصل إلى حد القتل والتفجير استهداء بسنته أم لا؟
ـ ولو فرضنا الإيجاب، فهل نتجاهل العناوين الثانوية، من قبيل تأكيدنا للصورة المشوَّهة التي يقدِّمونها عن نبي الرحمة بأنه نبي الذبح وأن دينَه ما انتصر إلا بالسيف؟ ألن تكون هذه العناوين الثانوية حاكمة عليها حينذاك؟
ـ عندما نعود إلى القرآن سنجد أن الله أرشد نبيَّه إلى التعامل مع مَن سبّوه وأساؤوا إليه بالسخرية والاتهامات الباطلة والأوصاف المهينة من قبيل (السحر، الكذب، الافتراء على الله، الجنون، وغيرها مما نقله عنهم القرآن بذاته) سواء أكانوا من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب كالتالي:
ـ بالنسبة إلى المشركين: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل:10]. هذا هو ملخص الموقف.. لا أمر بقتل ولا مواجهة بعنف.
ـ ولا تتصور أنه كان يتمنى إهلاكهم بعد كل إساءاتهم له، فقلبه الكبير كان يدفعه إلى أن يدعو لهم بالهداية ويبرّر لهم أنهم لا يعلمون!
ـ وفي موقف يخبره جبريل(ع) أن الملَك الموكّل بالجبال يقول: (إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين) جبلين..
فبم أجاب؟ قال (ص): (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً).
ـ قد يقال أن المشركين كانوا أقوياء في مكة والنبي بينهم، ولذا أُمِر بذلك، وأن الأمر اختلف لاحقاً.. ولكن هذا الكلام مردود عليه، بموقفه ممن أساء إليه بالقول من المنافقين وأهل الكتاب وهم تحت سلطانه في المدينة.
ـ بالنسبة إلى المنافقين: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)[التوبة:61]، يعني لا يفكر وساذج ويصدّق كل ما يقال له.. هذا في السنة التاسعة ، والنبي في قمة قوته، والمتحدثون تحت سلطانه.. فما الرد؟ (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ).. هذا هو الرد، هو رحمة وهدى عندما يستمع إليكم ويجاريكم.
ـ وفي موقف آخر: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون:8]، هذا قول ابن سلول حتى تجرّأ وقال: (سمّن كلبك يأكلك). ويأتي ابنُه عبدالله يطلب الإذن بقتله، ويرفض النبي رفضاً قاطعاً.
ـ وعندما يحتضر هذا المنافق يبعث في طلب النبي، ويستجيب له، فكلمه النبي ولامه قائلاً: (أهلكَك حبُّ اليهود)، فقال: (قد فهمتُ ما تقول، فامنُن عليَّ فكفنِّي في قميصك وصل عليَّ، ففعل).
ـ وبالنسبة إلى أهل الكتاب: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران:186].
ـ بينكم وبين أهل الكتاب عهد، لا تنقضوه لمجرد صدور مثل هذه الإساءات الكلامية في أجواء غزوة أحد التي خسر فيها المسلمون المعركة وشعروا معها بالضعف وكانت الفرصة لليهود كي نفّسوا عن شيء من أحقادهم.
ـ ولو نعود إلى الآيات السابقة لها سنجد بعضاً من مضامين إساءاتهم الموجهة إلى الله: (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)[181]، وإلى النبي: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ)[184].
ـ فما هو الموقف منهم؟ (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) اصبروا على هذا الأذى، واتقوا الله ولا تنقضوا الميثاق بينكم وبينهم.. اتقوا الله ولا تردّوا عليهم بالسيف وأنتم على ذلك قادرين.
ـ في نفس السورة: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) هذا الكلام القبيح والجارح والإثارات المسيئة لن تتجاوز الأذى النفسي والاعتباري بحقكم، فليس المطلوب الرد بالعنف.. نعم: (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ)[110-111]، وهنا اختلفت المسألة.
ـ القاعدة إذاً: لا تنتقم يا رسول الله من هذه الإساءات الكلامية، ولا تواجهها بالعنف، قتلاً كان أم دون ذلك، ودع الأمر لي: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر:95]. وعليك بالقاعدة الأخلاقية: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34].
ـ نعم، لو وصل الأمر أن يغزوك ويسعوا إلى القضاء عليك، وعلى أنصارك، ودينك، فهذا شيء آخر، ولابد من الدفاع عن النفس، ورد كيد المعتدين. ولذا لم يغزُ النبي أية غزوة ابتداء، بل كانت كلها دفاعية، أو رداً لعدوان، أو مواجهةً لنقض عهد، ومواثيق صلح وأمان.
إن الأوضاع المأساوية التي يمرّ بها المسلمون، وتعالي صوت التكفيريين، وتنامي قوتهم، وغلبة صورتهم المتوحشة على الصورة الحقيقية للإسلام، وإن باتت تمثّل تحدّياً كبيراً على الصعيد الفكري والأخلاقي والإنساني والأمني، إلا أنها في ذات الوقت أصبحت الفرصة المواتية لفقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم لكي يعيدوا التفكير في اجتهاداتهم الخاصة بمثل هذه القضايا التي ما عادت بحوثاً نظريةً، بل ترتهن بها صورة الإسلام التي اهتزّت كثيراً، لا عند غير المسلمين فحسب، بل قَبْل ذلك في نفوس أبنائه الذين غدَوا بحاجة إلى مَن ينتشلهم مِن وحول الشك والإلحاد واللادينية، بالدليل والحجة، لا بالخطاب العاطفي الذي يَسهُل نقضُه.. وأدّعي جازماً أن العودة إلى القرآن الكريم وجعله ـ بحق لا ادعاءً ـ المصدر الأول للتشريع، ولمعرفة مفردات الإيمان والفكر الإسلامي والأخلاق والسيرة، هو السبيل للوصول إلى النتيجة المطلوبة.