خطبة الجمعة 19 ربيع الثاني 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: في مواجهة السنين العجاف


(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ)[يوسف:46-48].
ـ في الوقت الذي اتجه فيه كثيرٌ من المفسرين إلى اعتبار أن ما جاء على لسان النبي يوسف(ع) في الآيات السابقة لم يتعدّ كونه تأويلاً لرؤيا الملك، اتجه البعض منهم ألاّ يكون يوسف(ع) في موقف تأويل تلك الرؤيا بقدر كونه الموجّه إلى ما يجب أن يُفعل في السنين السمان والعجاف.
ـ بمعنى أن دلالة الرؤيا كانت عبارة عن وقوع جدب شديد لمدة سبع سنوات، تسبقها سبع سنوات من الوفرة، دون أن تقدّم المخرج من هذه الأزمة.
ـ وحتى أبيّن لكم بشاعة ما كان يمكن أن يحدث في تلك الأزمنة، أنقل النص التالي للمقريزي وهو يتحدث عن مجاعة حصلت في مصر في منتصف القرن الخامس الهجري: (وأُكلت الكلاب والقطط، حتى قلّت الكلاب.. وتزايد الحال حتى أكل الناسُ بعضُهم بعضاً) وقد وقع مثل ذلك في هذا العصر في أوكرانيا أبان عهد ستالين.
ـ ما قام به يوسف(ع) بالإضافة إلى تأويل الرؤيا هو المبادرة لوضع خطة لمواجهة هذا الحدث المخيف.
ـ ولهذا كان خطابه لهم أن يزرعوا دأباً، وأن يقتصدوا في استهلاك القمح، ويذروا باقي الحصاد في سنبله.
ـ هناك بحث علمي للبروفسور عبد المجيد بلعابد قدمه للمؤتمر العالمي للإعجاز العلمي في القرآن الذي أقيم في الكويت عام 2006 جاء فيه أن: (البذور التي تبقى محفوظة في السنابل تحافظ على كمية البروتينات والسكريات العامة فيها، أما البذور التي تُعزل من السنابل فتتقلص كميتها بعد سنتين بنسبة 32%).
ـ هذه المبادرة لتقديم الحل العملي لمواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة بالإضافة إلى تأويل الرؤيا، هي التي دفعت الملك إلى أن يقول: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)[54].
ـ وفي هذا العصر الدراسات الاقتصادية، وسرعة تبادل المعلومة، وغير ذلك من العوامل باتت بنحو ما كرؤيا ذلك الملك، فهي تقدم تصورات مهمة وحساسة حول بعض الأوضاع الاقتصادية المستقبلية للعالم.
ـ اليوم، بالنسبة إلى الكويت ـ وكما هو واضح ـ هناك ظرف اقتصادي ضاغط مع التهاوي المتسارع لأسعار النفط.. فكيف ستواجه الحكومة نقص الموارد وعجز الموازنة وغير ذلك؟
ـ الكويت كانت من أوائل الدول النامية التي أسست الصناديق السيادية، وقبل عام تقريباً تم تصنيفها في المرتبة السادسة على العالم، إذ كانت الحصة المعلنة للهيئة العامة للاستثمار ما قيمته 548 مليار دولار.
ـ ولولا الهدر والتساهل والتعدي على المال العام من قبل البعض لنجحت في تكوين رصيد أكبر.
ـ وهذه الصناديق السيادية هي التي مكّنت الكويت من رعاية مواطنيها عندما توقف الاقتصاد المحلي بسبب الغزو، ومن خلالها دفعت الكويت تكاليف التحرير من الغزو الصدامي، وهي التي موّلت ميزانية الدولة بعد التحرير إلى أن عاد إنتاج النفط إلى وضعه الطبيعي.
ـ ومع الأزمة الاقتصادية القادمة، والتي لا يُعلم مداها الزمني، بات الجميع يتساءل: ما نحن فاعلون؟
ـ من الطبيعي أن أول إجراء يمكن أن تتخذه الحكومة هو تقليص المصروفات، وتحميل المواطن بعض الأعباء الجديدة، كزيادة أسعار المحروقات والكهرباء والماء وفرض بعض الضرائب وأمثال ذلك.
ـ ولكن هل يقتنع المواطن بتحمل مسؤوليته في هذا الظرف دون تبرم، في الوقت الذي يرى فيه الهدر والتعدي على الأموال العام، وعدم الجدية والحزم في استردادها؟
ـ خاصة عندما يجد أن ما سيتم توفيره من خلال تحمّله الأعباء الجديدة تقابله تعاقدات مع شركات استشارية أو تنفيذية تستهلك خلالها مبالغ أضخم، ودون مردود متناسب، هذا إن لم تقع بعض المؤسسات الحكومية في أخطاء قاتلة تتبخر معها تلك الأرقام.
ـ ولذا فعلى الدولة إذا ما أرادت إقناع المواطن بتحمل المسؤولية، وكذلك لضمان استمرارية هذه الصناديق السيادية القيام بعدة خطوات مهمة من بينها:
1ـ تقديم خطة تنموية واضحة المعالم بأرقام التكلفة وتواريخ المراحل، بحيث تضمن من خلال ذلك تعدد مصادر الدخل الذي ينادي بها الكل، ولم ينجز منها إلا القليل القليل.
2ـ الرقابة الصارمة على تطبيق القانون بكل حزم وسواسية على من يتطاول على المال العام أو يكون سبباً في هدره.
3ـ الشفافية في تقديم التقارير الاقتصادية والمشاريع، كي يشعر المواطن بالاطمئنان تجاه إدارة هذا الملف، ويتشجع على المساهمة الفعالة في عملية الترشيد وتحمل مسؤولية سياسات التقشّف.
ـ فمن النظريات الإدارية أن المؤسسة الناجحة هي التي تستطيع تجزأة هدفها العام إلى أهداف فرعية، بحيث تعمل كل إدارة على تحقيق ما يخصها، وبتجمع الإنجازات يتحقق الهدف العام.. وهكذا عندما يعرف المواطن حجم دوره في تحقيق الهدف العام يتشجع على المساهمة في إنجاح الخطة الاقتصادية الاستثنائية.
ـ إننا في الوقت الذي ندرك فيه الحساسية البالغة للمرحلة الاقتصادية القادمة التي ستعيشها الكويت في ظل التهاوي المستمر لأسعار البترول، وأهمية مشاركة المواطنين في عملية الترشيد، وتقليص النفقات، وزيادة بعض الرسوم، ورفع أنواع من الدعوم، إلا أننا نتطلع قبل ذلك إلى أن نجد الجدية والحزم في تعامل الحكومة مع الملفات الاقتصادية المختلفة ذات العلاقة، وذلك من خلال تقديمها للخطة التنموية الدقيقة والمتضمنة لسياسة تنويع مصادر الدخل، وإيقاف هدر المال العام، ومحاسبة سرّاقه، واسترجاع ما تم نهبه، وإطلاع المواطنين ـ بكل شفافية ـ على أهم الإنجازات والتحديات.. وحينها فقط سيشعر الأفراد أن من واجبهم الوطني المساهمة الفاعلة بالخطة الاقتصادية المتقشفة، والرضا بتبعاتها، حتى لو استدعى ذلك التنازل عن شيء من المميزات التي كانوا ينالونها، وتحمّلهم لبعض الأعباء المالية الإضافية.. وما ذاك إلا حباً لوطنهم، ورداً لجزء من جميله الذي يغمرهم.