خطبة الجمعة 12 ربيع الثاني 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مخاصمة القضاء


(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26].
ـ من أهم مواطن طلب العدل وأشدها حساسية: القضاء، وبتعبير أمير المؤمنين(ع): (العدلُ حياةُ الأحكام).
ـ ومن هنا نجد أن الشريعة الإسلامية لم تكتفِ بوضع مجموعة شرائط تخص القضاء والتقاضي، من قبيل عدالة القاضي وعلمه وأمثال ذلك، بل قدَّمت مجموعة من الآداب أيضاً، إمعاناً في تحقيق العدالة، ومنها:
ـ عن النبي الأكرم(ص): (من ابتُلي بالقضاء فلا يَقضي وهو غضبان).
ـ عن أمير المؤمنين علي (ع): (من ابتلي بالقضاء فليواسِ بينهم في الإشارة، وفي النظر، وفي المجلس).
ـ وفي خبر: (أن رجلاً نزل بأمير المؤمنين (ع)، فمكث عنده أياماً، ثم تقدم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين (ع)، فقال له: أخصم أنت؟ قال: نعم، قال: تحول عنّا، فإن رسول الله (ص) نهى أن يُضاف الخصم، إلا ومعه خصمه). خوفاً من المحاباة نتيجة العامل النفسي، أو اتهام الناس للقاضي بالمحاباة.. إلخ.
ـ ولذا فقد ضمّن علي(ع) كتابه إلى واليه على مصر مالك الأشتر الوصية التالية: (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ.... ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ) أي مراقبة عمل القاضي ومدى التزامه بشروط القضاء ونزاهته (وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ) كي لا يطمع في الرشى فيجور في أحكامه (وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ) أي احرص على تعزيز علاقتك به، بحيث لا تدفعه الفجوة في العلاقة إلى أن يخاف على مكانته وموقعه المتقدم، فيلجأ بالتالي إلى مصانعة الأقوياء وذوي النفوذ والأثرياء أملاً في إسنادهم له عند الحاجة.
ـ وقد طبّق الإمام علي (ع) أمر مراقبة القضاة بنفسه في القضية التي نقلها الشريف الرضي في قسم الكتب من نهج البلاغة (الكتاب الثالث)، قال: (روي أنّ شريحَ بن الحارث قاضيَ أميرِ المؤمنين (ع) اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه (ع) ذلك، فاستدعى شريحاً، وقال له: بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمانِينَ دِينَاراً، وَكَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً، وَأَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً. فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فنظر إليه (ع) نظر مُغضَب ثمّ قال له: يَا شُرَيْحُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً، وَيُسْلِمَكَ إلَى قَبْرِكَ خَالِصاً. فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ، لاَ تَكُونُ ابْتَعْتَ هذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الَّثمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ! فَإِذَا أَنْتَ قدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الاْخِرَةِ! أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتاباً عَلَى هذِهِ النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَم فَمَا فَوْقُ. والنسخة هذه: هذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ، مِنْ مَيِّت قَدْ أُزْعِجَ لِلرحِيلِ، اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ...).
ـ والوصية بالإكثار من تعاهد القضاء تلتقي مع القانون المقترح الخاص بإنشاء (مجلس مخاصمة القضاء) والذي عُرض على مجلس الأمة بصور مختلفة ابتداء من عام 2007 ولم يُقَر، ومازال الأمر قيد التداول.
ـ وينطلق المقترح من أن القاضي مهما كان نزيهاً ومحيطاً بالأحكام ومطلعاً على ملف القضية، فإنه يبقى بشراً غيرَ معصوم عن الخطأ، وبما أن إقامة العدل وإحقاق الحقوق هي الغاية من التخاصم عند القضاء، لذا فإن إقامة مثل هذا المجلس سيكون أمراً متناغماً مع الشرع، والعقل، والدستور.
ـ هذا المقترح لا يمثل بدعة في مجاله، حيث لدى الكثير من الدول المتقدمة والنامية مجالس مشابهة له.
ـ والمقترح الذي قُدِّم من قبل بعض السادة النواب يتضمن 16 اختصاصاً لهذا المجلس من بينها:
ـ تلقّي البلاغات والشكاوى والتظلمات ضد أعضاء السلطة القضائية أو القرارات القضائية والتحقيق فيها.
ـ محاكمة أعضاء السلطة القضائية وإصدار العقوبات التأديبية والجزائية بحقهم.
ـ إلغاء القرارات القضائية والتعويض عنها.
ـ وقد أكد السيد وزير العدل قبل أقل من سنة أن وزارته عاكفة على تجهيز توليفة تخص (قانون استقلالية القضاء ومخاصمة القضاء) لتُعرض على مجلس الأمة، ومؤكداً أهمية المشروع وأنه حاجة ملحة.
ـ إننا نأمل أن يتم التعامل الجاد من قبل السادة نواب مجلس الأمة مع القانون المقترح بإنشاء مجلس مخاصمة القضاء متى ما طُرح، حرصاً على أهم أساسٍ من أسس الحكم في أي بلد ينشد الاستقرار والقوة والتنمية والتماسك المجتمعي، وهو ما أكدته المادة السابعة من دستور دولة الكويت التي نصّت على أن: (العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع, والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين) وفي المادة 162 منه أن: (شرفَ القضاء, ونزاهةَ القضاةِ وعدلَهم, أساسُ الملك وضمانٌ للحقوق والحريات)، وقد قال الله سبحانه: (إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّـهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النساء:58]. أيها الناس، إنَّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجَوْر عليه أضيق.