خطبة الجمعة 5 ربيع الثاني 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الصنمية


(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ)[الشعراء:69-74]
ـ منَّ الله علينا برسوله على خطى جده إبراهيم، فخلَّصنا نهائياً من عبادة الأصنام الحجرية والخشبية وغيرهما.
ـ ولكن هناك أصناماً من نوع آخر نختلقها لأنفسنا نتيجة عوامل تربوية أو بيئية أو إعلامية أو غير ذلك، وسعى النبي(ص) أن يخلِّصنا منها، ولكنها بقيت في أغلب الأحوال حاضرة في حياتنا.
ـ عرّف البعض الصنمية كالتالي: (تقديس غير المقدَّس واعتباره الحق المطلق، بحيث يمتلك الحصانة من النقد، ليتحوّل ذلك إلى حالة من الاتباع التام والطاعة المطلقة). وعلينا هنا أن ننتبه إلى أن الطاعة التامة:
ـ تارة تكون لما يستحق ذلك، كما في قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[الحشر:7] فالطاعة التامة والاتباع الكامل لرسول الله(ص) ليس حالة صنمية، لأنه اتباع للحق.
ـ وتارة أخرى تكون تلك الطاعة التامة والانقياد الكامل لما لا يستحق مثل ذلك.. وعندها تتحقق الصنمية.
ـ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23]. هذه حالة صنمية دون أن يكون في البين صنم مصنوع من حجارة أو خشب وأمثال ذلك.. والتخلص من هكذا أصنام موكول أمره إلينا.
ـ والصنمية قد تكون لإنسان ظالم مستكبر كفرعون: (فَحَشَرَ فَنَادَىٰ، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)[النازعات:23-24].
ـ من المعاصرين أحد رؤساء جمهورية تركمنستان كان مصداقاً للرئيس الصنم، صنع من نفسه صنماً لشعبه، حين اعتبر أنه مطلق السلطة، واجب الطاعة التامة، والّف كتاباً باسم (روحنامه) اعتبره كتاباً مقدَّساً قال فيه: (كل من يقرأ هذا الكتاب ثلاث مرات سيكتشف ثروة روحية وسيزداد ذكاء وفطنة وسيكون مصيره الجنة)!
ـ ثم استبدل أسماء الأشهر وأيام الأسبوع، فشهر يناير أصبح يحمل لقبه (تركمانباشي)، وشهر إبريل اسم أمه، وشهر سبتمبر اسم الكتاب المقدس الذي ألّفه.. إلخ القائمة.
ـ وهكذا قد تكون لزعامات اجتماعية: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب:67].
ـ وبعض المفاهيم قد تتحول لتكون أصناماً، فالبعض يطرح القومية أو الوطنية بشكل يحوّلهما إلى أصنام، بحيث يعتبر أن كل ما يرتبط بالقومية أو بالوطنية صحيح ولو كان متعارضاً مع العدل والحق.
ـ الوطنية مطلوبة، ولكن تخيّل لو أنك كنت تحت حكم صدام ويفرض عليك المشاركة في العدوان على الدول المجاورة ونهبها وتدميرها وقتل أهلها واغتصاب نسائها.. تحت مسمى الوطنية ألا تتحول الوطنية إلى صنمية؟
ـ بل قد تكون الصنمية لمن يتلبّس باللباس الديني: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ)[التوبة:31].
ـ الحالة الصنمية هنا نتجت من أن أولئك الأحبار والرهبان أعطوا لأنفسهم مكانةً وقداسةً لا يستحقونها، وأضفوا على أنفسهم من الصفات ما لا يعكس واقعهم، ثم أمروا الناس بطاعتهم، حتى فيما غيّروه من أحكام الله وشريعته، وعبثوا فيه من إيمان الناس ومفاهيمهم.
ـ في الكافي عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية السابقة: (واللّه ما صاموا لهم، ولا صلّوا لهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً، فاتّبعوهم).. هذه صنمية.
ـ كل شيء ممكن أن يتحول إلى صنم.. (الماركات) بالنسبة إلى بعض النساء صنم، وعلاقاتهن بها علاقة صنمية.. (الصيد اللهوي) بالنسبة إلى بعض الرجال صنم، المنصب، السفر اللهوي، كرة القدم.. إلخ القائمة.
ـ ومن أهم خطوات المعالجة هي المعالجة التربوية، بأن نبدأ في بيوتنا، في تربيتنا لأطفالنا.. فقد نخلق نحن هذه القابلية في أطفالنا بأسلوبنا التربوي الخاطئ، أو بالمفاهيم المغلوطة التي نزرعها في أذهانهم.
ـ ويأتي دور الخطاب الديني أيضاً، حيث عليه أن يتحمل مسؤولية توعية المجتمع بمنطق النبي(ص) القائل: (ألا لا يمنعنّ رجلًا هيبةُ أحدٍ أن يقول بحقٍّ إذا علِمَه)، لا بمنطق الأحبار والرهبان الذين يريدون من الناس الطاعة التامة حتى في ما يخالف دين الله وشريعته.
ـ وهناك مسؤولية على المناهج التعليمية ووسائل الإعلام أن يُبرِزا دور النقد البنَّاء الهادف، ويشجِّعا عليه، ويساعدا في بناء الوعي، لئلا يتحوّل أفراد المجتمع إلى إمّعات ينعقون وراء كل ناعق.
ـ كما أن من مسؤوليتهما أن لا يحوّلا الأفراد والجماعات والأحزاب والقوميات إلى أصنام ومقدسات واجبة الطاعة والاتباع ولو في الباطل والفساد، لأن المسؤولية الدينية والوطنية والإنسانية تحتّم علينا السعي لتصحيح الخطأ بحكمة، أياً كان مصدر الخطأ.
ـ وإذ كان المعوَّل على الحركات الإسلامية ـ السنية منها والشيعية ـ أن تكون رافداً من روافد الإصلاح لهذا الخلل في مجتمعاتنا، إلا أن كثيراً منها ـ وللأسف الشديد ـ لم تستطع الفكاك من الحالة الصنمية للجماعة أو القيادة، بل تحوّل بعضها ـ أو بعض قادتها ـ إلى أصنام تُطاع من دون الله، لتنحرف بذلك عن جوهر وجودها وطبيعة حركتها، حين يتبنّى أتباعُها وأنصارُها فكرةَ أن كل ما يصدر عنها هو خيرٌ محض، ويمثّل عين الحقيقة والصواب، وأن طاعتها ملزمة على كل حال، ولا يجوز الرد عليها.. بل غالى بعضهم حتى اعتبر أن عدم الانتماء لهذا الحزب أو ذاك ـ أو حتى مخالفته ـ يعني حتمية المصير البائس في الآخرة! إن مسؤولية هذه الحركات والقيادات أن تعيد تقييم تجربتها وفق المنهج القرآني الرافض لأية صنمية وإن أُلبِست ثيابَ الشرعية وزُخرفَت بعناوين الضرورة ومتطلبات المرحلة.