خطبة الجمعة 28 ربيع الأول 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لماذا نضيع البوصلة؟


(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[البقرة:189]
ـ أراد اللّه للنبيّ أن يهتم بكلّ الأسئلة.. لأنَّ من حقّ النّاس عليه أن يبتدئهم بالمعرفة إذا لم يسألوه، وأن يجيبهم إذا توجهوا إليه بالسؤال، لأنَّ من مهمات النبي أن يفتح لهم أبواب المعرفة على أوسع مدى.
ـ ولربما يتجه الإنسان في سؤاله في الاتجاه الخاطئ، نتيجة اهتمامه بأمور لا تُسمن ولا تُغني من جوع، أو في قضايا تعود عليه بالضرر، أو بمسائل وهمية باطلة، ثم يضيع في تفاصيل لا تُحقِّق له نتيحة تُذكر.. والمسؤولية هنا أن يتم توجيه هذا السائل إلى السؤال الصحيح والاتجاه السليم ليصل إلى المعرفة المفيدة.
ـ وقد يكون بعض ما يُطرح كسؤال أو كفكرة منطلِقاً من بعض التصورات غير المنسجمة مع الإيمان، أو الشريعة، أو الموقف القيادي... ولا بُدَّ للقيادة الفكرية والسياسية من الاستجابة لذلك كلّه بكلّ رحابة صدر.
ـ ولعل الآية تأتي في هذا الإطار، حيث سئل النبي عن السر وراء التشكلات المختلفة للأهلة، فوجهتهم الآية إلى مسار آخر، وكأنها تقول لهم ابحثوا عما يحقق لكم الفائدة العملية من هذه التغيرات.. ولربما كان السبب أنهم لم يكونوا يملكون من القدرة على المعرفة الكونية بما يوصلهم إلى نتيجة مفيدة في التصور الفلكي.
ـ وهكذا على مستوى السلوك.. فقد كانوا يتصورون أن الشرع يحتّم عليهم عدم دخول البيوت من أبوابها، بل من ظهورها ما داموا في حال الإحرام، وأن هذا من البِر العملي.. فجاءت الآية لتبيّن لهم المفهوم الصحيح للبِر، وهو أن يمتلك الإنسان التقوى، لتجعله التقوى إنساناً صالحاً في الحياة.
ـ وقد استوحى الإمام الباقر(ع) من هذه الآية فكرة رائعة إذ قال في معنى: (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا): (يعني أن يأتي الأمرَ من وجهه، أيَّ الأمور كان). ابحثوا عما يعودُ عليكم بالنفع، وخوضوا فيما يُصلح حالَكم، واسلكوا الطريق الصحيحة لبلوغ الغاية... ولكنَّ أكثر الناس يُضِيعون البوصلة.
ـ عندما يدخل العام الجديد، أو نكون على مشارفه، تمتلئ المكتبات بكتب الأبراج والطالع، ويغيب كثيرون عن الوعي والحقيقة وهم مستغرقون في مطالعة صفحات هذه الكتب طلباً لكشف المستور واستباق المستقبل، ويغفلون عن القيام بإطلالة ولو سريعة على ما قدموه في عام مضى، وعن التخطيط لعام قادم يكون أفضل، لا بناء على تكهنات وأوهام، بل بناء على التوكل على الله، وعلى حقائق ومعطيات على الأرض.
ـ وهكذا يُضيع الناس البوصلة في تفكيرهم، وفي أسئلتهم، وفي تعاطيهم ومعالجاتهم لكثير من الأمور.
ـ تُثار في مجلس الأمة قضية فساد أو خلل في أداء مؤسسة حكومية أو وزارة ما، وتتهيج معها الصحافة، والقنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتقوم الدنيا ولا تقعد مع الاستجواب أو ضده.
ـ ثم يتم الاستجواب، أو يستقيل الوزير، أو يكون هناك تدوير للوزراء.. ويتوقف كل شيء عند هذا الحد، وكأن المسألة كانت تصفية حسابات شخصية مع المسؤول، أو استعراض عضلات، أو أي شيء آخر سوى أنها كانت معالجة للخلل أو محاربة الفساد!
ـ ولا أحد يحاسِب أو يستجوب هذا النائب على ما فعل.. بل الكل يصفُّق له، ويهلل، لشطارته في إسقاط المسؤول، وينسى الجميع أصلَ المشكلة، وموطن الخلل، وعين الفساد. ويعود الوضع إلى ما كان عليه.
ـ وهكذا يُضيع الناس البوصلة.
ـ قضية الشيخ النمر تحوَّلت إلى إثارة مذهبية، وسباب وتصفية حسابات، وطفحَت وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو طائفية، وسخرية من هذا وذاك.
ـ والأنكى من ذلك أن تُوجَّه عندنا أسئلة برلمانية للوزراء المعنيين ضد مجموعة من علماء البلد أصدروا بياناً عبَّروا فيه عن قناعتهم بخصوص هذا الحدث! بغض النظر عن صحة موقف العلماء أو عدمه.
ـ هل يُراد مواجهة وإثارة الشارع الشيعي ككل؟ هل تجهلون قيمة العمامة واللباس الديني والامتداد المرجعي في الساحة الشيعية؟ هؤلاء علماء دين، ومن أبناء الوطن، ولا يُتعامل معهم بهذه الصورة الاستفزازية.
ـ تعلموا من أمير البلاد كيف أدار وبصورة حكيمة تبعات التفجير الإرهابي الذي طال مسجد الإمام الصادق، ذلك التفجير الذي كان مرشَّحاً أن يحوِّل الكويت إلى ساحة للاقتتال الطائفي، لولا التعامل الأبوي الذي وظّف الحدث لمصلحة الكويت وأبنائه، فخرجت البلاد أقوى وأكثر تلاحماً حتى صار الآخرون يغبطوننا ويضربون بنا المثَل. وهذه نعمة كبيرة.
ـ تأليف القلوب عمل جبار ليس بالسهل: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال:63].
ـ فهل هناك أيادي تعمل على زوال هذه النعمة، وتوجِّهنا بذاك الاتجاه الخاطئ، من خلال الإثارات الطائفية والسباب والتخوين الذي يملأ وسائل التواصل الاجتماعي؟ وإذا كان الجواب إيجابياً.. فأين عقولنا نحن؟
ـ لماذا نسمح بأن تُجَر أقدامُنا إلى مثل ذلك؟ لماذا نسمح لهؤلاء بأن يستخدموننا حطباً لنيرانهم؟
ـ إننا أمام مرحلة دقيقة، وفي مواجهة خطر لا يُستهان به، لأن أية نزاعات سياسية تُلبَس الرداء الديني والمذهبي، سرعان ما تتحول إلى حربٍ مقدَّسة، لا تُبقي ولا تذر. وما جرى في لبنان قبل عقود، وفي العراق وسوريا واليمن مؤخراً خير شاهد على ذلك. ولذا فإنَّ على الجميع أن يتحملوا مسؤولياتِهم.. والمأمول من السياسيين بما فيهم نواب الأمة، والحزبيين: أن يقدّموا مصلحة الوطن، بدلاً من التكسب الحزبي والانتخابي واستغلال الظرف لتصفية الحسابات.. والمأمول من المسؤولين: الارتقاء إلى مستوى التعامل الحكيم مع التطورات المتصاعدة ومراعاة الظروف الموضوعية الداخلية والإقليمية بما يحوِّل الأزَمة إلى عنصر قوة وتلاحم وطني.. والمأمول من عامة الناس: التفكير بعقلانية، والابتعاد عن المهاترات والمزايدات والتأجيج الطائفي والاصطفاف المذهبي.. لا تتلاعبوا بالنار فتُحرق الجميع، ولا تُضِّيعوا الكويت في وسط الأجواء العاصفة بين دول الإقليم الكبرى، فقد تخرج تلك الدول من كل هذا بتفاهمات وترضيات، ولو بعد حين، ونبقى نحن في حيرةٍ كيف نداوي جراحاتنا العميقة، ونعيد ما خسرناه في وسط العاصفة المدمرة.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين.