خطبة الجمعة 21 ربيع الأول 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الاتزان النفسي في شخصية النبي


(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159]
ـ جاءت هذه الآية الشريفة في أجواء معركة أحد والأوضاع الخاصة التي عاشها المسلمون مع اقتراب جيش كبير للمشركين، على خلاف غزوة بدر الكبرى حيث كان اللقاء على بعد عشرات الكيلومترات من المدينة.
ـ وعلى الرغم من إبداء النبي(ص) الميل للمواجهة من خلال التحصن في المدينة نفسها، إلا أن كثيراً من المسلمين، بما فيهم الشخصيات البارزة من أصحاب النبي(ص)، ولاسيما الذين لم يشاركوا في غزوة بدر، بالإضافة إلى الشباب المتحمسين، أصروا على الخروج للقاء العدو في أرض مكشوفة على مشارف المدينة.
ـ وانطلقت في تلك الأجواء الكلمات الحماسية منهم والضاغطة باتجاه الخروج، فما كان منه (ص) إلا أن استجاب لرغبتهم الحماسية، وأعلن البدء بالتهيؤ للخروج.. بالطبع ندم جمع منهم بعد ذلك، وتلاوموا فيما بينهم، واعتذروا للنبي، وأبدوا استعدادهم لتنفيذ خطته، إلا أنه لم يتراجع عن القرار ومضى فيه.
ـ وهكذا استوعب النبي الموقف ـ وبكل رحابة صدر ـ وأمضى رغبتَهم، وهو القائد الأعلى، والمسدَّد من الغيب، واكتفى بقول: (قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ، وَلا يَنْبَغِى لِنَبِىّ إذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ).
ـ لم ينفعل رسول الله غاضباً لرفضهم قوله في البداية، ومن غير أن يحقّر رأيهم مقابل رأيه، أو يستسخف عقولهم أمام حكمته وارتباطه بالغيب.
ـ وهكذا عبّرت الآية الشريفة عن حكمة النبي، وأخلاقه الرفيعة، وشخصيته المتوازنة، وقلبه الكبير.
ـ وهو أيضاً ما عبّر عن بعضه أكثر من شخص ممن عاشروه فقالوا عنه فيما قالوا: (لم يكن فحّاشاً ولا متفحشاً ولا صخّاباً).. أي لم يكن يتكلم بما هو قبيح من القول، ولا يأتي بما هو قبيح من الأفعال، وكان هادئاً في قوله، ليس بالصيَّاح.
ـ وعلى هديه كان إمامنا الصادق(ع)، قال إمام المالكية: (ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً.... لم يكن عياباً ولا سباباً ولا صخاباً... ولا طعَّاناً ولا لعَّانا ولا همازاً ولا لمازاً ....).
ـ لاشك أن الانفعال سلوك إنساني طبيعي.. وعلمياً يقولون أن الفص الأمامي للدماغ مسؤول عن عمليات التفكير المنظَّم، والتخطيط، واتخاذ القرارات عن وعي وإدراك، بينما في أسفل المخ هناك لوزة أصغر من حبة البندق، تتعامل مع التغيرات المفاجئة والأزمات والانفعالات كالغضب، والحرج، والحزن، والخوف، وغيرها.
ـ فعندما يتعرض الإنسان لمواقف فجائية طارئة تتفاعل هذه اللوزة مع هذا الطارئ، وتُحوِّل جزء من طاقة الفص الأمامي إلى حواس الإنسان وأطرافه، فتبدر من الإنسان تصرفات انفعالية، ويغيب حينها دور التعقّل.
ـ تقول بعض الدراسات أن كل ما تحتاجه في تلك اللحظة أن تعطي لنفسك فرصة 6 ثوان كي تعيد للفص الأمامي دوره ليأخذ زمام الأمور بدلاً من تلك اللوزة. في الحديث النبوي: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع). هذا التغيير في الوضع يعطيك المهلة المطلوبة، وتستهلك من خلالها شيئاً من الطاقة التي تم ضخها ولكن في الاتجاه غير العدواني.
ـ وما أجمل أن تلجأ في تلك اللحظات إلى الوضوء، كما في حديث نبوي، وتذكر الله وتصلي ركعتين لتحوّل الطاقة الانفعالية العدوانية إلى عفو وتسامح ورحمة وتفكير متّزن مع استمداد العون من الله!
ـ كان موسى(ع) ذي شخصية سريعة الانفعال ـ وإن كانت دفاعاً عن الحق والمظلومين وفي مرضاة الله ـ إلا أن الله أراد له أن يكون أكثر سيطرة على انفعالاته فأدخله تجربةً عملية مع العبد الصالح في الرحلة المعروفة.
ـ ولعل تلك الحالة ناتجة أصلاً من أنه نشأ وتربّى في البلاط الفرعوني، فتركَت تلك البيئة شيئاً من الأثر على شخصيته.. ولا يخفَى علينا كيف يتصرف أصحاب القوة والنفوذ انفعالياً لاسيما مع مَن هم أقل منهم شأناً.
ـ لذا نقول لأولياء الأمور الذين يحبّون أن يروا أبناءهم يتمتعون بشخصية هادئة، هل وفرتم لهم هذه البيئة؟
ـ أولياء الأمور الذين يشتكون أن أبناءهم عنيفون في ردود أفعالهم، سريعو الغضب، صخّابون، عدوانيون، فليراجعوا أنفسهم.. فعندما يحدُث الخلاف ـ مثلاً ـ بين الزوجين فيلجئان إلى الصراخ.. أو عندما يرى الطفل والديه في حالة انفعال دائم.. كيف نتوقع أن تكون انفعالاته وتصرفاته؟
ـ عندما نجد أن المجتمع يعاني من التصرفات الانفعالية المتزايدة، فليراجع السياسيون سلوكياتِهم، حينها سيجدون أن حواراتهم البينيّة عنيفة، وأن سمة خطاباتهم الصراخ والصخَب.
ـ وليراجع رجال الدين خطابَهم الديني، سيجدون أن الإقصاء والتكفير والعنف سمات غالبة على ذلك الخطاب، وأن أحدهم لو اختلف مع رجل الدين الآخر فإنه لا يرحمه، بل يكيل له عناوين الجهل وقلة العقل!
ـ وليراجع أهل الفن والإعلام إنتاجهم الفني والإعلامي، سيجدون حينها أن التسفيه، والتحقير، والاستهزاء، والكلمات الجارحة، وإثارة الخلافات، هي العناوين الحاضرة فيه.
ـ إن الواقع الانفعالي الذي يعيشه الطفل في البيت، والفرد في المجتمع، إنما هو نتاج البيئة التي نصنعها من حولنا، ومن يريد تغيير ذلك الواقع فعليه أن ينظر إلى الوالدين في البيت، وإلى السياسيين في محافلهم وإلى رجال الدين في خطبهم وكتاباتهم، وإلى أهل الفن والإعلام في إنتاجاتهم.. فإن أصلحوا ما أفسدوه، فسينصلح حال الطفل في البيت، وحال الفرد في المجتمع، وما أجمل قول النبي(ص) وهو يشخّص جانباً من المشكلة: (صنفان من أمتي إذا صلُحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العام الذي دخل علينا خيراً من السنة الماضية، فقد اصطبغت الكثير من أقطار العالم الإسلامي وخارجِه بلون الدم الحرام المستباح على موائد الإرهاب باسم الدين والدولة، وعلت أصوات المدافع والصواريخ أكثر وأكثر، وفَقَد المزيد من الأبرياء مساكنَهم وأمنَهم ومصادرَ رزقِهم، وابتلعت البحار أجساد الأطفال والأمهات والشيوخ الفارِّين من قسوة الحروب ووحشية العدوان، واشتدّت صورة الإسلام قتامةً في عيون الناس، وازداد المسلمون بُعداً عن قضيتهم المركزية.. قضية فلسطين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.