خطبة الجمعة 21 ربيع الأول 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: وأزلفت الجنة للمتقين


(أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ، لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:24-34].
تقدم هذه الآيات صورة مقارنة للنتائج التي يحصدها الإنسان في الآخرة لما قدّمت يداه.. كفراً أو إيماناً.. شراً أو خيراً.
ـ ففي الوقت الذي تتحدث فيه الآيات عن الكيفية المهينة التي سيَلقى فيها العذاب أولئك المشركون المفسدون، فإنها تقدم صورة رائعة للكيفية التي سيلاقي فيها المؤمنون الصالحون المتقون ما ينتظرهم من نعيم.
ـ للمشركين المفسدين، هناك إلقاء بكل ما تحمل هذه الكلمة من إذلال لأصحاب العذاب، وفيهم الذين عاشوا الطغيان والقوة والنفوذ في الحياة الدنيا. وفي المقابل تُقرَّب الجنة للمؤمنين أصحاب النعيم، فينعمون فيها، دون أن يبذلوا جهداً للوصول إليها.
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي أُدنيت إليهم وقرّبت إلى مواقعهم كأنها تُقدّم إليهم دون حاجةٍ إلى أن يبذلوا أيّ جهدٍ للوصول إليها، كرامةً لهم. وهذا أسلوب مجازي كنايةً عن الرغبة الإلهية في بذل الراحة لهم بكل الوسائل.
ـ ولكلمة (أُزْلِفَتِ) هنا خصوصية مقارنة بأُدنِيت أو قُرُّبَت، فالكلمة بالإضافة إلى معنى الاقتراب والدنو تتضمن معنىً آخر وهو كون الشيء مرغوباً به محبوباً إلى النفس.
ـ فلا يُقال: (أُزلِفت النار) إلا على سبيل النكاية، كما في قوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي العذاب (زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [المُلك:27] وقد قال: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[آل عمران:21]، فالتبشير يتعارض مع العذاب ولكنه هنا نكايةً بهم.
ـ فما الذي قدّموه في الدنيا لكي تُقدَّم لهم الجنة بهذه الصورة الرائعة؟
ـ (هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) لقد تعاهدوا الأمانة الإلهية بالتوحيد والإيمان والطاعة فحفظوها، وإذا ابتعدوا في يوم ما عن المسار الذي أراده الله لهم أن يسلكوه، رجعوا إليه مسرعين تائبين منيبين.. لأنهم لا يتظاهرون بالتدين، بل إنهم يعيشون التقوى الحقيقية سراً وعلانية.
ـ (ادْخُلُوهَا بِسَلَام) فما قيمة أن ينعم الإنسان بشيء وهو يعيش الخوف من عدو أو حاسد، أو عدم الطمأنينة لدوام النعم، أو القلق من المستقبل الغامض؟ أما في الجنة فإن الصفة الرئيسة لنعيمها أن الإنسان يدخلها وقد قُدِّمت له كل الضمانات أنه لن يجد فيها إلا السلام والأمن وهو خالد فيها (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ).
ـ (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا) مما تشتهيه أنفسهم (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) مما لا يعرفون من صور النعيم و مما لا تبلغه تصوراتهم.
ـ اللهم اجْعَلْنِا مِنْ صَفْوَتِكَ الَّذِينَ أَحْلَلْتَهُمْ بُحْبُوحَةَ جَنَّتِكَ، وَبَوَّأْتَهُمْ دارَ كَرامَتِكَ، وَأَوْرَثْتَهُمْ مَنازِلَ الصِّدْقِ فِي جِوارِكَ، فَلا تُولِنِا الْحِرْمانَ، وَلا تُبْلِنِا بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرانِ، يا سَمِيعَ الدُّعاءِ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.