خطبة الجمعة 14 ربيع الأول 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: محاذير الاكتفاء بالتعظيم


ـ (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21]
ـ أشرتُ في ذكرى وفاة النبي(ص) إلى أن الاستغراق في مكامن الرفعة عند العظماء مع نسيان رسالتهم، قد يعرّضنا إلى ازدواجية الشخصية، والابتعاد عن منهجهم، ويبدو أن هذا الكلام احتاج إلى شيء من التوضيح.
ـ لا يخفى على مؤمن أن تعظيم النبي الأكرم(ص) في حد ذاته أمر مطلوب، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف:157].
ـ كلمة (عزَر ـ عزّر) كما قال ابن منظور في لسان العرب من الأَضداد، فتارة تأتي بمعنى (أدّب ولام)، ولذا يقال لنوع من العقوبة (التعزير).. وتارة تأتي هذه الكلمة بمعنى (فخَّم وعظَّم ونصَر)، وهذا هو المراد في الآية.
ـ ولكننا تارة نتعامل مع العظماء ـ كرسول الله والإمام الصادق ـ بأن نرفع من شأنِهم ونمجّد فِعالَهم ونتغنّى بإنجازاتهم حباً لهم، وانبهاراً بهم، وتعظيماً لتاريخهم المشرق، ثم نتوقف عند هذا الحد. وتارة أخرى نتفاعل معهم، ولكننا لا نكتفي بذلك، بل نهتدي بهداهم، ونقتدي بسنتهم، ونبحث عن مكامن عظمتهم سعياً للأخذ بها.
ـ فمن خلال الاكتفاء بالتعظيم والتبجيل والثناء والاستغراق في ذلك ستترتب عدة سلبيات محتملة:
1ـ نقض غرض مشروعهم الرسالي: فقد بعث الله نبيَّه(ص) لهداية الناس كي يُفلحوا، وضحّى أئمة الهدى(ع) ما ضحّوا من أجل تلك الرسالة. فلو استغرقنا في ذواتهم، ونسينا الرسالة وتخلينا عنها، فإن ذلك يعني تخلّينا عن مساندتهم في مشروعم الرسالي، فكيف نسمح لأنفسنا حينئذ أن ننتسب إليهم؟
ـ ولذا فإن الآية السابقة عند بيان مَن هم المفلحون لم تكتف بالأمر بالإيمان برسول الله(ص) وتعظيم شأنه، بل طالبت المؤمنين به بنصرته واتباعه واتباع القرآن.
2ـ المغالاة في أشخاصهم: كما حصل للنصارى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ)[النساء:171].
ـ فالتركيز على ذاتيات السيد المسيح في معاجزه وأخلاقه وروحانيته أفقدتهم البوصلة، حيث استغرقوا فيها تعظيماً وتبجيلاً حتى تجاوزوا به حد البشرية والعبودية.
ـ وهذا ما سعى القرآن لتأكيده وتجنيب المسلمين تكرار ذات الخطأ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110].
ـ كما واجهه الأئمة(ع) بقوة، من قبيل ما جاء في خبر مصادف قال: (لما لبّى القوم الذين لبّوا بالكوفة) أي قالوا: لبيك يا جعفر بعد أن ادعوا له صفات الألوهية (دخلت على الصادق(ع) فأخبرته بذلك، فخرّ ساجداً وألزق جؤجؤَه بالأرض، وبكى وأقبل يلوذ بإصبعه ويقول: بل عبدٌ لله، قنّ داخر) عبد ذليل (ـ مراراً كثيرةً ـ ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته، فندمت ُعلى إخباري إياه فقلت: جعلت فداك، وما عليك أنت مِن ذا؟ فقال: يا مصادف، إنّ عيسى لو سكتَ عمّا قالت النصارى فيه، لكان حقّاً على الله أن يُصمَّ سمعَه ويُعمي بصرَه. ولو سكتُّ عمّا قال أبو الخطاب، لكان حقّاً على الله أن يُصمّ سمعي ويُعمي بصري).
ـ وقيل للصادق(ع): (جُعلنا فداك، إنّ المفضّل بن عمر يقول إنكم تقدّرون أرزاق العباد. فقال: والله ما يقدّر أرزاقَنا إلا الله، ولقد احتجتُ إلى طعامٍ لعيالي فضاق صدري، وأبلغَتْ إليَّ الفكرةُ في ذلك) غمّني الأمر (حتى أحرزتُ قوتَهم، فعندها طابت نفسي).
ـ وهؤلاء المغالون كلما نفى الإمام أقوالهم، لجؤوا إلى تأويل كلماته لإثبات باطلهم. فعن قاسم الصيرفي، قال: (سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: قوم يزعمون أني لهم إمام، والله ما أنا لهم بإمام، ما لهم لعنهم الله، كلما سترتُ ستراً هتكوه، هتك الله ستورهم. أقول: كذا، يقولون: إنما يعني كذا. أنا إمامُ مَن أطاعني).
3ـ الإساءة إلى العنوان الذي ننتمي إليه وتشويه صورة العظماء الذي ننتسب إليهم: ونلحظ هذا جلياً في وصية الإمام الصادق(ع) التي رواها زيد الشحام وأولها: (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام) قال: (.... فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدى الامانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك، ويدخل علي منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر. وإذا كان على غير ذلك، دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر).
ـ وهذا يحدث الآن، وانظر إلى ما يقال عن عدم عناية الشيعة بصلاة الجمعة والجماعة، وعن إحيائهم لطقوس وثنية من قبيل المشي على الجمر والتطيين والتخييس تحت عنوان الشعائر الحسينية، وعن علاقتهم بنكاح المتعة بشكل مهووس وبلا ضوابط شرعية، وأمثال ذلك.
ـ وهذا نموذج بين أيدينا: (كتب أبو الحسن (ع) إلى بعض مواليه: لا تلحّوا على المتعة، إنما عليكم إقامة السنة، فلا تشتغلوا بها عن فُرِشِكم وحرائرِكم، فيكفرن، ويتبرَّين، ويدعين على الآمر بذلك، ويلعنونا). فكم نلتزم نحن بذلك؟ وهل نحن نُسِر الإمام الصادق بهذا أم نُدخل البلاء والعار عليه والعياذ بالله؟
4ـ ازدواجية الشخصية: للتناقض بين العنوان الذي ننتمي إليه والشخصيات التي نعظّمها من جهة، وبين سلوكياتنا وأخلاقنا من جهة أخرى، ومن أمثلة ذلك ما ورد في الخبر التالي عن محمّد بن عجلان قال: (كنت مع أبي عبدالله(ع) فدخل رجل فسلّم، فسأله: كيف مَن خلّفتَ مِن إخوانك؟ فأحسَنَ الثناء وزكّى وأطرَى. فقال له: كيف عيادةُ أغنيائهم لفقرائهم؟ قال قليلة. قال: كيف مواصلةُ أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً ما هي فيمن عندنا. قال: فكيف يزعم هؤلاء أنهم لنا شيعة؟).
ـ إنني أعود لأؤكد أن من الخطأ أن نكتفي فقط بالاستغراق في ذاتيات العظماء كالنبي (ص) والأئمة (ع) والتحديق في مكامن عظمتهم، مع نسيانِ رسالتهم، ومن دونِ الاهتداءِ بهديهم، وإغفالِ الأهداف التي من أجلها قدَّموا ما قدَّموه من تضحيات جسام، لأن في هذا نقضاً لمشروعهم، ومظنّةَ الوقوع في مهلكة الغلو، وتقديمَ الفرصة لأعدائهم للإساءة إلى أشخاصهم ورسالتهم، مع تعريضِ النفس لخطر الابتعاد عن الرسالة والمبادئ والقيم التي أخذوا بها وضحّوا من أجلها. (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).