خطبة الجمعة 8 صفر 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: حق الإنسان في الحياة


ـ قال تعالى في كتابه الكريم بعد استعراض قصة ابني آدم هابيل وقابيل: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)[المائدة:32].
ـ تؤكد هذه الآية المباركة على أصالة حرمة الإنسان، ووجوب احترام حق الآخرين في الحياة، احتراماً للحياة في ذاتها، إذ تمثّل سراً ربانيّاً مختصّاً بخالقها، وواهبها، ومالك أمرها.
ـ ولأن الاعتداء على حياة أيِّ فرد من الأفراد، يمثّل اعتداء على النوع الإنساني كما قال سبحانه: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).. وبالتالي فهو اعتداء على غَرض الخِلقة، أي الاستخلاف.
ـ ومن هنا قال هابيل: (مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[المائدة:28]. أي أنَّ مثل هذا القتل يمثّل منازّعة لربوبية الله.
ـ نعم، استثنت الآية الموارد التي أباح الله فيها قتل القاتل قصاصاً، أو المفسد في الأرض من أجل تخليص النَّاس من فساده.
ـ وهذا كله إنما يجب أن يكون ضمن ضوابط عديدة، وفي محاكمات عادلة، وبعيداً عن أية شبهة تُدرَأ بها الحدود، مع ضرورة تعريف الفساد في الأرض وتحديده بشكل دقيق من قبل الفقهاء وأهل الاختصاص.
ـ وتختتم الآية بالتأكيد على قيام الرسل بإيصال رسالات الله وبيانها وتوضيحها عبر التاريخ وفي الأمم المختلفة... هذا علاوة على توافر الرادع الذاتي بالعقل والفطرة والوجدان الإنساني.
ـ وبالتالي فهل يملك أحدٌ أن يقول لم أعلم بحرمة التعدّي على حياة الآخرين.
ـ أي أن ما يصدر من قتل غير مشروع إنما هو تجاوز لتلك الحدود، وعدم التزامٍ بما أمرهم الله به أو نهاهم عنه.
ـ وهل مجرد الاختلاف في الدين أو المذهب يُعدُّ مبرِّراً للقتل؟
ـ لو كان الأمر كذلك لأباد الله كثيراً من الناس، وما أبقى على الأرض إلا المؤمنين المتقين الصالحين، ولكنها إرادته تعالى وحكمته التي شاءت أن يعيش الجميع عليها، حتى إذا ورثها ومَن عليها كان هو الحَكم الفصل.
ـ في الأسبوع الماضي واجهت فرنسا ـ بل كل العالم ـ الحقيقة المرة من جديد:
ـ الحقيقة المرة في أن الإجرام الإرهابي لا يقف عند حدود دولةٍ أو إقليمٍ ما.
ـ الحقيقة المرة التي أكدنا عليها مراراً بأن الكلب المسعور إذا أُطلِق، فإنه لا يميّز بين صديق وعدو، وينطبق عليه المثل: (سمِّن كلبك يأكلْك).
ـ الحقيقة المرة بأنَّ تكرار الخطأ التاريخي بالسماح بتصدير الإرهابيين المتنامين في الغرب، والمستفيدين من أجواء الحرية هناك، إلى مناطقنا، لن يجعل الغرب بمأمن من سُعارِهم المتوحّش.
ـ الحقيقة المرة بأن الدماء التي سالت في فرنسا ليست أغلى ثمناً من الدماء التي تسيل يومياً في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وأفغانستان وباكستان وفي غيرها من بلاد العرب والمسلمين، فالروح الإنسانية هي روح ذات حُرمة أينما كانت، ومهما كان العِرق أو الدين.
ـ الحقيقة المرة بأن هؤلاء المتطرفين وإن ادّعوا أنهم يمثّلون الإسلام، وأنهم يريدون إقامة دولة الخلافة الإسلامية العادلة، إلا أنهم في واقعهم يمثّلون البيئة الخصبة للمخابرات الدولية، والتي من خلالهم يُحققون أجنداتها، ومصالح حكوماتها.
ـ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تناست بعض المنظمات الفلسطينية عدوّها الصهيوني، وتحوّلت إلى أدوات مخابراتية وإجرامية بيد مخابرات بعض الدول الإقليمية، كالنظام الصدامي، تنفيذاً لأجندات تلك الدول.
ـ واليوم نشهد حالة مشابهة من حيث الصورة لا من حيث المضمون.. فالتكفيريون بخلاياهم وتنظيماتهم الانشطارية المختلفة التشكيل والعناوين غدوا ـ وبامتياز ـ أدوات وأيادي للمخابرات الإقليمية والعالمية، مع العلم بأن بعضها ـ في الأصل ـ صنيعة مخابراتية بحتة، وبعضها الآخر تنظيمات مخترَقة.
ـ وهم بعد هذا ينفذون جرائمهم بنداء (الله أكبر) و باسم الانتقام (للمسلمين) في سوريا والعراق وغيرهما، بينما هم في الواقع ينفّذون ما يُملى عليهم من قبل تلك الأجهزة المخابراتية بما يخدم مصالحها.
ـ تارة تقوم بعض خلاياهم المخترَقة بتفجير طائرة لصالح دولة معينة، وتارة يفجّرون أنفسهم في وسط الأبرياء لتخريب عملية سياسية في بلد ما، وثالثة يتحوّلون إلى أداة للانتقام من خلال خلايا أخرى خاضعة لتوجيهات مخابرات الدولة المنتقِمة! والضحية الكبرى دائماً: (الإسلام).
ـ إننا في الوقت الذي نضم فيه أصواتِنا إلى أصوات المستنكرين لهذه الجرائم البشعة، ندعو إلى أن تعيد الجهات المختلفة رسم سياساتها في التعامل مع هذا الإرهاب المتنامي بهدف القضاء عليه، لا بالسماح له بالبقاء وتكوين دويلة الإجرام كأداة لابتزاز هذا الطرف أو ذلك، أو لاستخدامه كيد خبيثة تُفسد هنا وتُجرم هناك. فقد أثبتت التجارب ـ وما زالت تثبت ـ أن الإرهابيين لا يُقيمون وزناً لدين ولا لقيم إنسانية، ولا يعرفون صديقاً، ولا يعبؤون بصاحب نعمةٍ عليهم.