خطبة الجمعة 1 صفر 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: نحو فقه يواكب التطورات


ـ مع تطور وتبدُّل الأحوال والأوضاع التي يعيشها الإنسان تتطور القوانين... وهذا لا يعني بالضرورة تبديل القوانين، بل يشمل أيضاً استنباط قوانين تخص قضايا مستجدة لم يعهدها الناس من قبل.
ـ فعلى سبيل المثال ـ وقبل أقل من ثلاثة عقود من الزمن ـ لم تكن هناك جرائم إلكترونية يُبتلى بها عامة الناس في حياتهم اليومية كي تُسن قوانين دولية ومحلية بهذا الخصوص.
ـ ولكن مع انتشار الحاسوب والإنترنت أصبحت المسألة ضرورة حتمية، وذلك:
1ـ لحفظ الحقوق.
2ـ تنظيم الاستفادة من هذا التطور التقني.
3ـ محاسبة ومعاقبة الذين يسيئون استعمالها ويرتكبون من خلالها جرائم تمس الجوانب المادية والاعتبارية.
ـ في عام 2013 ارتُكبت جرائم إلكترونية بكلفة 100 مليار دولار، وهناك أكثر من مليون ونصف ضحية يومياً حول العالم، أي 556 مليون ضحية سنوياً لمختلف أنواع هذه الجرائم.
ـ ومن هنا انطلقت جهود دولية عديدة ـ خاصة في السنوات الأخيرة ـ لسن القوانين الخاصة بهذه الجرائم وتنظيمها وتنفيذها على المستوى الدولي والمحلي.
ـ وبالتالي فإن وجود (فقه الجرائم الإلكترونية)، بل فقه كل ما له علاقة بالشأن الإلكتروني، أصبح اليوم ضرورة حتمية.
ـ فهل نجد له حضوراً واضحاً، سوى بعض الاستفتاءات المتفرقة هنا وهناك؟ ألا يحتاج الأمر إلى تنظيم وعرض بشكل شمولي، وبتطبيقات واضحة، مع وجود هذا الإقبال المحموم عليه؟
ـ المثال الثاني (فقه السلامة المرورية)، فقد تناول الفقه الإسلامي أحكام الطريق وآدابه ضمن الوضع الذي كان قائماً في زمن صدور النص، ومثال ذلك ما جاء في الخبر النبوي أنه(ص) قال: (إياكم والجلوس في الطرقات. قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُد، نتحدث فيها. قال رسول الله (ص): فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حقه؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، و ردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر).
ـ هذا النص له مصاديقه المختلفة اليوم فيما يخص استعمال الطريق ورَكْن السيارات وما إلى ذلك، ويمثل جزءً من فقه أحكام المرور، من قبيل القيادة برعونة وسرعة تتجاوز الحد المسموح به، و رَكن السيارة حيث تُعاق حركة المرور وتسبب الحوادث، والتعرض إلى النساء بالنظر عند إشارات المرور، وغير ذلك.
ـ فالفرد يحتاج إلى الوازع الداخلي الذي يمنعه من ارتكاب مثل هذه المخالفات... والوازع الديني الشرعي مفردة إضافية إلى الوازع الأخلاقي والضمير والخوف من العقوبة ومن النتائج السلبية المترتبة.
ـ في عام 2014 أجْرَت جامعة ميشغين الأمريكية، معهد بحوث النقل، دراسة جاء فيها أن الكويت تحتل المركز الثالث عالمياً من إجمالي 193 دولة في الوفيات نتيجة حوادث ومصادمات الطرق مقارنةً بسائر أٍباب الوفاة بكل بلد منها. أما الأولى فالسعودية والثانية قطر!
ـ ألا يحتاج الأمر ـ بعد هذا ـ إلى معالجة فقهية وأخلاقية إيمانية بمستوى هذا الخطر؟
ـ بل إن بعض الاستفتاءت تبيّن وجود خلل منهجي في تفكير بعض المتديّنين كما في الاستفتاء التالي الموجه لسماحة المرجع السيد علي السيستاني: س: هل يلزم المكلف الحاصل على فيزا الإلتزام بقوانين البلد غير الإسلامي، بما في ذلك التقيُد بأمثال إشارات المرور وقوانين العمل وأمثالها؟
الجواب: إذا تعهّد لهم ـ ولو ضمناً ـ برعاية قوانين بلدهم، لزمه الوفاء بعهده فيما لا يكون منافياً للشريعة المقدسة. ومثل إشارات المرور يلزم التقيد بها مطلقاً، إذا كان عدم مراعاتها يؤدي ـ عادة ـ إلى تضرّر مَن يحرم الإضرار به من محترمي النفس والمال).
ـ فكأن المسألة المرورية ـ عند السائل ـ لها علاقة بكون البلد إسلامياً أو غير إسلامي كي يتم الالتزام بقوانين المرور، في غفلة عن حجم المخاطر الناتجة عن عدم الالتزام بهذه القوانين في أي بلد كان.
ـ وبالتالي فإن الفقه الإسلامي بحاجة إلى مواكبة هذه التطورات والمتغيرات.
ـ وأمثال النص السابق والقواعد الفقهية والأصولية كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) لا تجعل الفقيه في حيرة من أمره عند استنباط الأحكام الخاصة بالمرور.
ـ بالطبع هناك دراسات ومؤلفات، بل وحتى استفتاءات في هذه المجالات، ولكن أتصور أن هذا كله لا يكفي، بل لابد من أن تتحول المسألة إلى ثقافة عند الفرد المتديّن، وتحقُّق ذلك مرهون بأن تتضمن الرسالة العملية لمرجع التقليد فصولاً خاصة لمعالجة هذه المستجدات وترسيخ الأحكام الشرعية الخاصة بها.
ـ فالاستفتاء من جهة يعتبر محدود التداول، ومن جهة أخرى لا يُرسِّخ المضمون كأمر ذي أهمية.. بينما نجد أن ما تتضمنه الرسالة العملية يكون ـ عادةً ـ أرسخ وأقوى تأثيراً وذي دلالة أقوى على الأهمية.
ـ كما ونأمل من المؤمنين والمؤمنات الحريصين على توعية الناس بخصوص أحكام الطهارة والنجاسة، ومستحبات بداية الشهر وآداب النوم والاستيقاظ، وهذا كلُّه حسن، أن يحرصوا أيضاً على التوعية ـ بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ في القضايا المعاصرة التي تبلغ من الأهمية مستوىً يؤدي فيه عدم الالتزام بالقوانين المنظِّمة له إلى إزهاق الأرواح، والإصابة بالإعاقات والعاهات الدائمة، وسلب الأمن من مستعملي الطريق، والإضرار بممتلكات الآخرين، والتعدي على الحقوق، والتجسس، والسرقة، وغير ذلك من القضايا التي نأمل أن نجدها حاضرة في الرسائل العملية لفقهائنا الكرام بما يواكب مستجدات الحياة ومتغيراتها.
ختاماً لابد من كلمة بخصوص التفجير الإرهابي الذي طال الآمنين ـ ليل أمس ـ في الضاحية الجنوبية لبيروت، ففي الوقت الذين نضم أصواتنا إلى أصوات المستنكرين لهذه الجريمة الآثمة، نسأل الله تعالى أن يعيد الأمن إلى أوطاننا، وأن يجعل كيد الإرهابيين ومَن يقف وراءهم في نحورِهم، ويجعل تدبيرَهم تدميرَهم، وأن يمن على الشهداء من رحمته رحَمات، وعلى الجرحى بالشفاء العاجل، وعلى ذوي الجميع بالصبر.