خطبة الجمعة 17 محرم 1437 : الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: التوبة والإصلاح: ثورة التوابين نموذجاً


والفعل، على مستوى قضايا الحياة والإنسان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّـهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم:8].
ـ ارتبط وجود الإنسان بطبيعته البشرية بالخطأ، ولذا ارتبطت التوبة بالوجود الإنساني.
ـ آدم (ع) مثَّل بداية الوجود الإنساني الحالي، ومشهد التوبة الصادرة عنه بعدما عصى ربه (أيّاً كان تفسير هذا العصيان وطبيعته) حاضر في القرآن الكريم حيث قال سبحانه: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ)[طه:121-122].
ـ ويعود مشهد التوبة في القرآن مع بني إسرائيل وموقفهم الشنيع بعبادتهم العجل بمجرد أن تركهم النبي موسى لعدة ليال، وبعد كل ما شاهدوه من معجزات باهرة وخلاص من نير عبودية فرعون وجنوده.
ـ إلا أن هذا المشهد يعود عنيفاً هذه المرة، ويتضمن القتل: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة:54] سواء فسرنا ذلك بالانتحار، أو بأن يقتل كلٌّ منهم الآخر، كما جاء في بعض الأحاديث.
ـ ولكن لماذا هذه الصورة العنيفة للتوبة؟
ـ لربما يكون السبب أنَّ الموقف يمثّل أوَّل تمرّد لهم على النبوّة في بداية تحرّكهم العملي نحو تأسيس مجتمعهم الخاص، تنظيمياً وتشريعياً، فكان لا بُدَّ من موقف يساوي حجم التمرّد، ليكون ضربةً قوية للطبيعة المتمرّدة التي بدأت تحكم مسيرة الرسالة الجديدة في مجتمعها، وليمنع حدوث أيّ تحرّكٍ أو تصرّفٍ من هذا القبيل.
ـ وتبقى هذه الصورة من التوبة محدودة المدى، فهي لم تستمر لتقضي عليهم جميعاً، بل ولعلها لم تتكرر.
ـ وجاء الاسلام فرسّخ مفهوم وفعل التوبة واعتبره أمراً لازماً على المسلم حين ارتكابه المعصية، ولكنه اعتبر أن الإصلاح شرط في تحقق التوبة: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل:119].
ـ ومن هنا برزت حركة التوابين بعد استشهاد الإمام الحسين وأنصاره وخذلان أهل الكوفة لهم.. لا بصورة ندم وذِكرِ استغفار فقط، بل من خلال الموقف العملي المتمثِّل في الثورة على الحكم الأموي بقيادة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي البالغ من العمر 93 سنة. وهكذا ينبغي أن تكون التوبة بحجم المعصية.

ـ قال أبومخنف: (... رأوا أنه لا يَغسل عارَهم والإثمَ عنهم في قتله إلا بقتل مَن قتله، أو القتل فيه).
ـ وبرواية حُميد بن مسلم كما في تاريخ الطبري أنه شهد وحفظ كلام سليمان بن صرد في كل جمعة حيث كان يكرر على التوابين قوله بعد لومهم على عدم نصرتهم للإمام الحسين: (أَلا انهَضوا فقد سَخِط ربُّكم، وَلا ترجعوا إِلَى الحلائل والأبناء حَتَّى يرضى اللَّه، وَاللَّهِ مَا أظنه راضياً دون أن تناجزوا مَن قتله، أو تبيروا. أَلا لا تهابوا الموت، فو الله مَا هابه امرؤ قط إلا ذل، كونوا كالأولي من بني إسرائيل إذ قَالَ لَهُمْ نبيهم: «إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ»، فما فعل القوم؟ جثوا عَلَى الركب وَاللَّهِ، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حَتَّى حين علموا أنه لا يُنجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر عَلَى القتل. فكيف بكم لو قَدْ دعيتم إِلَى مثل مَا دُعي القوم إِلَيْهِ؟! اشحذوا السيوف، وركِّبوا الأسنة، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ»).
ـ وأكّد هذا المنطق خالد بن سعد بن نفيل وهو أحد قادة التوبين فقال: (أما أنا فو اللهِ لو أعلم أن قتلي نفسي يُخرجني من ذنبي ويُرضي ربي لقتلتُها، ولكن هَذَا أُمِرَ بِهِ قومٌ كَانُوا قَبلنا ونُهينا عنه، فأُشهد اللَّهَ ومَن حَضر مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنَّ كلَّ مَا أصبحتُ أملكُه ـ سوى سلاحي الَّذِي أقاتل بِهِ عدوي ـ صدقةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أقوّيهم بِهِ عَلَى قتال القاسطين).
ـ وهكذا خرج قرابة أربعة آلاف مقاتل من الكوفة نحو الشام، وتلاحموا مع أضعافهم من رجالات الجيش الأموي، وأبدوا كل بطولة حتى استشهد كثير منهم في ساحة المعركة، بمن فيهم أمير التوابين سليمان.
ـ وهذه الحركة وإن لم تنجح في تحقيق نصر ميداني، إلا أنها دقت مسماراً آخر في نعش الدولة الأموية، وأنعشت في المسلمين روحَ مقاومة الباطل والفساد.
ـ ومن المشاهد الرائعة في حركة التوابين أنهم: (لما انتهى سليمان بن صرد وأصحابه إلى قبر الحسين نادوا صيحة واحدة: يا رب، إنا قد خَذلْنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نُشهدك يا رب أنّا على مِثل ما قُتلوا عليه، فإنْ لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. فأقاموا عنده يوماً وليلة يصلّون عليه ويبكون ويتضرعون، فما انفكَّ الناسُ مِن يومِهم ذلك يترحمون عليه وعلى أصحابه حتى صلوا الغداة من الغد عند قبره، وزادهم ذلك حنَقاً، ثم ركِبوا فأمر سليمان الناسَ بالمسير، فجعل الرجلُ لا يمضي حتى يأتيَ قبرَ الحسين، فيقوم عليه فيترحم عليه ويستغفر له. قال الراوي: فوالله لرأيتُهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود... ثم قال سليمان: الحمد لله الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين، اللهم إذ حرمتناها معه، فلا تحرمناها فيه بعده).
ـ إن التوبة تمثّل الحركة التصحيحية في حياة الإنسان المذنب، وبوّابة العبور إلى رضوان الله، بشرط أن يكون الإنسانُ صادقاً في توبته، مُقبلاً على ربه، مُدرِكاً حَجم الخطيئة التي اقترفها، تماماً كما أدرك الحر بن يزيد الرياحي حجم الخطيئة التي ارتكبها بمنعه الحسين من الوصول إلى الكوفة، فما استكان في توبته حتى نصر الحسين بالموقف العملي فأصلح ما كان قد أفسده، وكما أدرك التوّبون حجم خطيئتهم فما اكتفوا بالدعاء وطلب العفو من الله، بل أثبتوا ذلك بالموقف العملي الذي رسموا معالمه بدمائهم وتضحياتهم.