خطبة الجمعة 26 ذوالحجة 1436: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: العامل الغيبي لتحقيق الوحدة


ـ قال تعالى: (وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّـهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّـهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الأنفال:62-64].
ـ خلال عقود مضت، سعى العرب والمسلمون لتحقيق صور مختلفة من الوحدة، أحياناً من خلال تشكيل أحزاب تدعو إلى الوحدة على أساس قومي عربي، أو من خلال البحث عن نظام مستحدث ـ كالاشتراكية ـ يتم تعميمه على الدول ضمن صياغة عربية معينة، أو من خلال الدعوة إلى إقامة خلافة إسلامية تلغي الحدود بين الدول الإسلامية.. وغير ذلك من الصور التي عايشناها.
ـ ولكن هل نجحت أيٌّ من تلك الأطروحات في تحقيق وحدة عربية أو إسلامية؟
ـ بالطبع لم يتحقق شيء من ذلك، بل جاءت النتائج عادة معكوسة وعلى نقيض الغرض، حيث سرعان ما تحولت تلك الجهود إلى صور من العداوة والبغضاء بين الرفقاء، ووصلت أحياناً إلى حد الاقتتال والحروب.
ـ حزب البعث العربي الاشتراكي نموذج على ذلك، فقد كان من أهداف هذا الحزب تحقيق وحدة عربية، وكان شعاره (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، وأهدافه: (وحدة، حرية، اشتراكية).
ـ ولكن ما حصل هو أن الحزب انقسم على ذاته عام 1966 إلى فرعين أحدهما عراقي والآخر سوري، ثم انقسم العراقي على نفسه، والسوري على نفسه، وترسخت حالة العداوة والبغضاء بين الأطراف بصورة تتجاوز ـ أحياناً ـ معاداتهما مع من يخالفهما في الإديولوجية!
ـ أما قصة نجاح رسول الله (ص) في تحقيق التآلف والوحدة والانسجام، وخلق أمة واحدة هي أمة الإسلام انطلاقاً من المجتمع العربي الجاهلي الذي كان الاقتتال الداخل وقطع الطريق وإثارة العصبيات هو صبغته العامة، أما هذه القصة فهي قصة مختلفة تماماً، يحكي عنها القرآن الكريم حيث قال تبارك وتعالى: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
ـ الآيات تخبرنا أن رسول الله(ص) بعظمته وحكمته وأخلاقه احتاج إلى المدد الإلهي الكبير كي يحقق ما حققه، ولولا هذا المدد لما تحقق ما تحقق.. والآية واضحة وصريحة في ذلك.
ـ هذه الحقيقة غائبة اليوم عن أذهان الكثيرين، فالعامل الغيبي في المسألة عامل حاسم، ولكن ـ بالطبع ـ ضمن المعادلة الإلهية: (إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].
ـ أي أن هذا العامل لا يتحقق إلا من خلال عمل تغييري داخلي على مستوى الأفراد.. تقوى وإخلاص وصدق نية وتوكل على الله، وحينها يأتي التغيير من الله على المستوى العام لتحقيق النتيجة الكبرى.
ـ أي أن المسألة أبعد من مجرد تنظير وتشكيل أحزاب ووضع دساتير وعقد مؤتمرات.
ـ فتأليف القلوب شيء، وتوحيد الأفكار والعقول شيء آخر.. ورَبُّ القلوب هو الذي بيده مفاتيح القلوب.
ـ قد تلتقي الأفكار، وتتشارك العقول الرأي، إلا أن هذا لا يكفي، لسببين.. السبب الأول: أن العقول من طبعها الميل إلى الجدل والنقاش والتفريع والتوسع في الآراء، وهذا من شأنه خلق الاختلاف وفتح باب التنازع.
ـ والسبب الثاني لأن النفوس تميل إلى الشخصانية، وقد يتم ذلك في لحظة ضعف، والنتيجة المحتملة مجدداً هي الاختلاف والتنازع والتفرق.
ـ وما دام هناك شخصانية وتحزبات وأهواء وتضارب مصالح، فإن هذه الحالة من العداوة والتشاحن والتقاتل ستطفو إلى السطح ولو بعد حين، فالفرد نادراً ما يستطيع أن يتجرد عن شخصانيته ويتغلب على أهوائه.
ـ ثم إنه إن نجح في ذلك، فلن يكون هناك ضمان لأن ينجح رفقاؤه في ذلك أيضاً، وبالتالي سيقومون هم بإثارة المشاكل وطرح العقبات وشحن الأجواء وخلق الصراعات.
ـ الآيات السابقة بعد بيان هذه الحقيقة تقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّـهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وهي وصية إلهية دخلت عندنا في إطار النسيان.
ـ البعض اليوم يتطلع إلى قوى عظمى من هذا المعسكر أو ذاك، ويجد فيها كل الأمل في أن تكون العنصر الحاسم الذي سيميل كفة على أخرى في هذا الصراع أو ذاك.. ولربما شغف بها حباً وتغزّلاً.
ـ بل إن البعض صار يقسّم تلك القوى وفق العنوان المذهبي، فهذه القوة العظمى مع السنة، وتلك مع الشيعة، في غفلة عن أن هذه القوى لا يهمها إلا مصالحها، وإذا وقفَت اليوم موقفاً معك وفق تلك المصالح فإنها ستبيعك غداً في أسواق النخاسة السياسية.
ـ ولذا تأتي الآية السابقة لتقدِّم الوصيّة الإلهية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّـهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لا تتطلع إلى أحد خارج هذه الدائرة، ولا تجعل آمالك خارج هذا النطاق.
ـ نعم هناك سياسة وهناك تبادل مصالح وهناك تعايش وهناك تبادل اقتصادي وهناك تحالفات أمنية وأمثال ذلك، ولكن هذا كله شيء وأن تهفو القلوب وتُعقَد الآمال وتُقسَّم الولاءات على هذا الأساس فهذا شيء آخر.
ـ ومن هنا كان أصحاب البصيرة من علمائنا يحذّرون دائماً من هذه الحالة.. كان الإمام الخميني رحمه الله ينبّه إلى عدم الانخداع بمواقف وكلمات أيٍّ من تلك القوى، ويعتبر أن كلاً منها أسوأ من الأخرى.. وكان السيد فضل الله رحمه الله يؤكد على أن تلك القوى لا تفرّق بين سنة وشيعة، وأنها ليست مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.
ـ إننا إذ نستقبل السنة الهجرية الجديدة ونستحضر السيرة المباركة لرسول الله (ص)، الذي يمثّل الإيمان بنبوّته الركيزة الثانية بعد الإيمان بوحدانية الله عزوجل، فإننا نسترجع القيم والمبادئ التي نادى بها، ونسترجع الحقائق الإيمانية التي نغيّبها ـ أحياناً ـ غفلةً أو جهلاً أو استعلاءً أو اتباعاً لهوى. لقد أخبرنا القرآن الكريم أن السعي لوحدة الأمة مسؤولية كل مسلم، وأن الله يبارك هذه الجهود ويُثمرها ويمدُّها غيبياً إن كنا صادقين في سعينا، ومخلصين له في حركتنا. فليكن أملُنا بالله سبحانه قوياً، ولنعمل على أن يكون الله هو مصدر قوتنا ومنبعَ عزتنا (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّـهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران:160].